الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 478 ] الثالث : الدليل السمعي

                                                      وفيه مباحث : الأول في تخصيص المقطوع بالمقطوع وفيه مسائل : الأولى : يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب في قول جمهور الأمة ، خلافا لبعض الظاهرية المتمسكين بأن المخصص بيان للمراد باللفظ ، فيمتنع أن يكون بيانه إلا من السنة ، لقوله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } ولنا أنه وقع ، لأن الله تعالى قال : { والمطلقات يتربصن } الآية وهي عامة في الحوامل وغيرهن ، فخص أولات الحمل بقوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وخص به أيضا المطلقة قبل الدخول بقوله : { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } .

                                                      وما قالوه معارض بقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } والجمع بين الآيتين أن البيان تحصل من الرسول عليه السلام ، وذلك أعم أن يكون منه أو على لسانه

                                                      وقال الشريف المرتضى في الذريعة " : الخلاف يرجع إلى اللفظ ، والمخالف يسمي التخصيص بيانا .

                                                      الثانية : يجوز تخصيص السنة المتواترة بمثلها والخلاف فيه أيضا ، [ ص: 479 ] وحكى الشيخ أبو حامد عن داود أنهما يتعارضان ، لا ينبني أحدهما عن الآخر . وقال القاضي عبد الوهاب : منع قوم تخصيص السنة بالسنة . لأن الله تعالى جعله مبينا ، فلو احتاجت إلى بيان لم يكن للرد إليه معنى .

                                                      الثالثة : يجوز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة ، قولا واحدا بالإجماع ، كما حكاه الأستاذ أبو منصور . وقال الآمدي : لا أعرف فيه خلافا ، لكن حكى بعضهم في الفعلية خلافا . وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : لا خلاف في ذلك ، إلا ما يحكي داود في إحدى الروايتين . وقال ابن كج : لا شك في الجواز ، لأن الخبر المتواتر يوجب العلم كما أن ظاهر الكتاب يوجبه .

                                                      وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها . كتخصيص آية المواريث بحديث : { لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم } وهو مثال للقولية . ومثلوا للفعلية بأن قوله : { الزانية والزاني } مخصوص بما تواتر عندهم من رجم المحصن تنبيه

                                                      كلام الشافعي في الرسالة " يقتضي أن السنة لا تخص القرآن إلا إذا كان فيه احتمال التخصيص ، فإن قال فيها : ويقال خاص حتى تكون [ ص: 480 ] الآية تحتمل أن يكون أريد بها الخاص ، فأما إن لم يكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل الآية ، وهو الثابت في الحديث : { أنه يؤخذ من كل حالم دينار } ، وهو نظير قوله في نسخ السنة القرآن .

                                                      الرابعة : يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب عند الجمهور ، وعن بعض فقهاء أصحابنا المنع ، وعن أحمد روايتان . قال ابن برهان : وهو قول بعض المتكلمين . وقال مكحول ، ويحيى بن أبي كثير : السنة تقضي على الكتاب ، والكتاب لا يقضي على السنة . تنبيه

                                                      سيأتي في باب النسخ من كلام الشافعي أن السنة لا ينسخها القرآن إلا إذا كان معها سنة تبين أنها منسوخة ، وإلا خرجت السنن عن أيدينا ، فيحتمل أن لنا هنا اشتراطه ، ويحتمل خلافه ، والفرق أن النسخ رفع فهو أقوى من التخصيص .

                                                      الخامسة : يجوز تخصيص عموم الكتاب ، وكذا السنة المتواترة بالإجماع لأنه لا يمكن الخطأ فيه ، والعام يتطرق إليه الاحتمال . قال [ ص: 481 ] الآمدي : لا أعرف فيه خلافا ، وكذا حكى الإجماع عليه الأستاذ أبو منصور قال : ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره ، وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع ، لا بنفس الإجماع ، لكن حكى الإمام بن القشيري الخلاف هاهنا ، فقال : يجوز التخصيص بالإجماع على معنى أنه إذا ورد لفظ عام واتفقت الأمة على أنه لا يجري على عمومه ، فالإجماع مخصص له كما قلنا في دليل العقل . والمخالف في تلك المسألة يخالف في هذه ، وقد بينا أن الخلاف لفظي .

                                                      وقال أبو الوليد الباجي : يجوز التخصيص بالإجماع فإذا أجمعوا على أن ما رفع عن العام خارج منه ، وجب القطع بخروجه وجوزنا أن يكون تخصيصا وأن يكون نسخا انتهى .

                                                      فيما ذكره من احتمال النسخ نظر .

                                                      وقال القرافي : الإجماع أقوى من النص لأن الخاص ، لأن النص يحتمل نسخه ، والإجماع لا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا } قال : وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة . ومثله ابن حزم بقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } واتفقت الأمة على أنهم إن بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم ، كما قال : " الجزية " بالألف واللام علمنا أنه أراد جزية معلومة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية