الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        ، 19 - الحديث الثالث : عن عائشة رضي الله عنها قالت { دخل [ ص: 111 ] عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري ، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره . فأخذت السواك فقضمته ، فطيبته ، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استنانا أحسن منه ، فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم : رفع يده - أو إصبعه - ثم قال : في الرفيق الأعلى - ثلاثا - ثم قضى . وكانت تقول : مات بين حاقنتي وذاقنتي } وفي لفظ { فرأيته ينظر إليه ، وعرفت : أنه يحب السواك فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه : أن نعم } هذا لفظ البخاري ولمسلم نحوه .

                                        الحديث الرابع : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك بسواك رطب ، قال : وطرف السواك على لسانه ، وهو يقول : أع ، أع ، والسواك في فيه ، كأنه يتهوع }

                                        التالي السابق


                                        " أبو موسى " عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار - ويقال : حضار - الأشعري معدود في أهل البصرة ، أحد أكابر الصحابة ومشاهيرهم . وذكر ابن أبي شيبة : أنه مات سنة أربع وأربعين . وهو ابن ثلاث وستين سنة . وقيل : مات سنة اثنتين وأربعين . وقال الواقدي : سنة اثنتين وخمسين .

                                        قوله في حديث عائشة رضي الله عنها " فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقال : أبددت فلانا البصر : إذا طولته إليه ، وكأن أصله من معنى التبديد ، الذي هو التفريق .

                                        ويروى : أن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة قال " أجلسوني فأجلسوه ، [ ص: 112 ] فقال : أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت ، ولكن لا إله إلا أنت ، ثم رفع رأسه فأبد النظر ، فقال : إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ، ثم قبض "

                                        وقولها " بين حاقنتي وذاقنتي " قيل " الذاقنة " نقرة النحر ، وقيل : طرف الحلقوم وقيل : أعلى البطن و " الحواقن " أسافله ، وكأن المراد : ما يحقن الطعام أي يجمعه ومنه المحقنة - بكسر الميم - التي يحتقن بها ، ومن كلام العرب : لأجمعن بين ذواقنك وحواقنك ، وفي الحديث الاستياك بالرطب ، وقد قال بعض الفقهاء : إن الأخضر لغير الصائم أحسن ، وقال بعضهم : يستحب أن يكون بيابس ، قد ندي بالماء ، وفيه إصلاح السواك وتهيئته ، لقول عائشة " فقضمته " والقضم بالأسنان ، ومن طلب الإصلاح قول من قال : يستحب أن يكون بيابس قد ندي بالماء ; لأن اليابس أبلغ في الإزالة ، وتنديته بالماء : لئلا يجرح اللثة لشدة يبسه ، وفي الحديث : الاستياك بسواك الغير ، وفيه : العمل بما يفهم ، من الإشارة والحركات ، وقوله صلى الله عليه وسلم " في الرفيق الأعلى " إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } ، الآية وقد ذكر بعضهم : أن قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم } إشارة إلى ما في هذه الآية ، وهي قوله { مع الذين أنعم الله عليهم } فكأن هذه تفسير لتلك ، وبلغني أنه صنف في ذلك كتاب يفسر فيه القرآن بالقرآن ، وقوله صلى الله عليه وسلم " في الرفيق الأعلى " يجوز أن يكون " الأعلى " من الصفات اللازمة ، التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق ، كما في نحو قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } وليس ثمة داع إلها آخر له به برهان ، وكذلك قوله : { ويقتلون النبيين بغير حق } ولا يكون قتل النبيين إلا بغير حق ، فكون " الرفيق " لم يطلق إلا على الأعلى الذي اختص به الرفيق ، ويقوي هذا : ما ورد في بعض الروايات " وألحقني بالرفيق " ولم يصفه بالأعلى ، وذلك دليل على أنه المراد بلفظة " الرفيق الأعلى " ، ويحتمل أن يراد بالرفيق : ما يعم الأعلى وغيره ، ثم ذلك على وجهين :

                                        [ ص: 113 ] أحدهما : أن يختص الرفيقان معا بالمقربين المرضيين ، ولا شك أن مراتبهم متفاوتة ، فيكون صلى الله عليه وسلم طلب أن يكون في أعلى مراتب الرفيق ، وإن كان الكل من السعداء المرضيين .

                                        والثاني : أنه يطلق " الرفيق " بالمعنى الوضعي الذي يعم كل رفيق ، ثم يخص منه " الأعلى " بالطلب ، وهو مطلق المرضيين ، ويكون " الأعلى " بمعنى العالي ، ويخرج عنه غيرهم ، وإن كان اسم " الرفيق " منطلقا عليهم .



                                        وأما حديث أبي موسى : ففيه أمران :

                                        أحدهما : الاستياك على اللسان واللفظ الذي أورده صاحب الكتاب - وإن كان ليس بصريح في الاستياك على اللسان - فقد ورد ذلك مصرحا به في بعض الروايات ، والعلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان ، بل هي أبلغ وأقوى ، لما يرتقي إليه من أبخرة المعدة ، وقد ذكر الفقهاء : أنه يستحب الاستياك عرضا ، وذلك في الأسنان ، وأما في اللسان : فقد ورد منصوصا عليه في بعض الروايات " الاستياك فيه طولا " .



                                        الثاني : ترجم البخاري على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته فقال : " باب استياك الإمام بحضرة رعيته " ، قال الشيخ الإمام الشارح تقي الدين رحمه الله : والتراجم التي يترجم بها أصحاب التصانيف على الأحاديث ، إشارة إلى المعاني المستنبطة منها : على ثلاث مراتب منها : ما هو ظاهر في الدلالة على المعنى المراد ، مفيد لفائدة مطلوبة ، ومنها : ما هو خفي الدلالة على المراد ، بعيد مستكره ، لا يتمشى إلا بتعسف ، ومنها : ما هو ظاهر الدلالة على المراد ، إلا أن فائدته قليلة لا تكاد تستحسن ، مثل ما ترجم " باب السواك عند رمي الجمار " وهذا القسم - أعني ما لا تظهر منه الفائدة - يحسن إذا وجد معنى في ذلك المراد يقتضي [ ص: 114 ] تخصيصه بالذكر ، فتارة يكون سببه الرد على مخالف في المسألة لم تشهر مقالته ، مثل ما ترجم على أنه يقال " ما صلينا " فإنه نقل عن بعضهم " أنه كره ذلك " ورد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم " إن صليتها ، أو ما صليتها " وتارة يكون سببه الرد على فعل شائع بين الناس لا أصل له ، فيذكر الحديث للرد على من فعل ذلك الفعل ، كما اشتهر بين الناس في هذا المكان : التحرز عن قولهم " ما صلينا " إن لم يصح أن أحدا كرهه ، وتارة يكون لمعنى يخص الواقعة ، لا يظهر لكثير من الناس في بادئ الرأي ، مثل ما ترجم على هذا الحديث " استياك الإمام بحضرة رعيته " فإن الاستياك من أفعال البذلة والمهنة ، ويلازمه أيضا من إخراج البصاق وغيره ما لعل بعض الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاءه ، وتركه بحضرة الرعية ، وقد اعتبر الفقهاء في مواضع كثيرة هذا المعنى ، وهو الذي يسمونه بحفظ المروءة ، فأورد هذا الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يطلب إخفاؤه ، ويتركه الإمام بحضرة الرعايا ، إدخالا له في باب العبادات والقربات ، والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية