الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ( 204 ) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ( 205 ) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ( 206 ) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد ( 207 ) يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( 208 ) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ( 209 ) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ( 210 ) سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ( 211 ) زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ( 212 ) كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 213 ) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ( 214 )

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 203 ] في ثنايا التوجيهات .والتشريعات القرآنية - التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية - يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجا للتربية، قائما على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية; يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح: هذه هي بعينها التي عناها القرآن! وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر: الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان . الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها. والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره. فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق; ولم يحاول إصلاح نفسه; بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير.. ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل! والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله ، لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حسابا في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافا بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله [ ص: 204 ] عليها وكفرتها.. ويسمى هذا الاستسلام دخولا في السلم. فيفتح بهذه الكلمة بابا واسعا للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة "كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا.. يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر ، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال. ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله: والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ..

                                                                                                                                                                                                                                      يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس. وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل. كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها. وكي تقبل عليها راضية النفس، مستقرة الضمير تتوقع نصر الله كلما غام الأفق، وبدا أن الفجر بعيد! وهكذا نرى أطرافا من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد وإذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.. ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رءوف بالعباد ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدرا بشريا على الإطلاق. فاللمسات البشرية لا تستوعب - في لمسات سريعة كهذه - أعمق خصائص النماذج الإنسانية، بهذا الوضوح، وبهذا الشمول.

                                                                                                                                                                                                                                      إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات.. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيا، مميز الشخصية. حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه، وتفرزه من ملايين الأشخاص، وتقول:

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو الذي أراد إليه القرآن! .. إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد البارئ في عالم الأحياء

                                                                                                                                                                                                                                      هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس.. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.. ويشهد الله على ما في قلبه .. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدا للتجرد والإخلاص، وإظهارا للتقوى وخشية الله..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ألد الخصام ! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره.. هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان.. [ ص: 205 ] حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال.. وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد..

                                                                                                                                                                                                                                      مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.. والله لا يحب الفساد .. ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد.. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس; ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم. فحسبه جهنم ولبئس المهاد ..

                                                                                                                                                                                                                                      إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض; وأهلك الحرث والنسل; ونشر الخراب والدمار; وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد.. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: اتق الله . تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه.. أنكر أن يقال له هذا القول; واستكبر أن يوجه إلى التقوى وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن بالإثم . فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه; وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه; ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء! إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها.. وتدع هذا النموذج حيا يتحرك. تقول في غير تردد: هذا هو. هذا هو الذي عناه القرآن! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم; واللدد في الخصومة; والقسوة في الفساد والفجور في الإفساد..

                                                                                                                                                                                                                                      في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة:

                                                                                                                                                                                                                                      فحسبه جهنم، ولبئس المهاد! ..

                                                                                                                                                                                                                                      حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تبقي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم ولبئس المهاد! ويا للسخرية القاصمة في ذكر"المهاد" هنا.. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء!.

                                                                                                                                                                                                                                      ... ذلك نموذج من الناس. يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله. والله رءوف بالعباد ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويشري هنا معناها يبيع. فهو يبيع نفسه كلها لله; ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله. ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء. بيعة كاملة لا تردد فيها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.. والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية.. [ ص: 206 ] يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا، ليعتقها ويقدمها خالصة لله، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه. فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير:

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في التفسير: قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة:

                                                                                                                                                                                                                                      نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة ، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل; فتخلص منهم، وأعطاهم ماله; فأنزل الله فيه هذه الآية; فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا له: ربح البيع. فقال: وأنتم. فلا أخسر الله تجارتكم. وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية .. ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ربح البيع صهيب
                                                                                                                                                                                                                                      .. قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب ، قال:

                                                                                                                                                                                                                                      لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش : يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدا. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم ما لي تخلون عني؟

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: نعم! فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ربح صهيب .. ربح صهيب
                                                                                                                                                                                                                                      .. مرتين..

                                                                                                                                                                                                                                      وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد. وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس; ترى نظائره في البشرية هنا وهناك والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان; فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة، مفسود الفطرة.. والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة.. وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان. ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة، والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء والزواق! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر، ونموذج الإيمان الخالص. يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان ، مع التحذير من الزلل بعد البيان.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين فإن زللتم، من بعد ما جاءتكم البينات، فاعلموا أن الله عزيز حكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة..

                                                                                                                                                                                                                                      وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله ، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام [ ص: 207 ] لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد; وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا; ليخلصوا ويتجردوا; وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.

                                                                                                                                                                                                                                      والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه; فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل; ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

                                                                                                                                                                                                                                      فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية