الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم .

استئناف آخر ناشئ عن جملة قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله .

وأعيد الأمر بالقول اهتماما بهذا المقول ، لأنه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله ، فإنه لما تقرر بالقول السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأن مصير كل ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة ، لأن ذلك نتيجة لازمة لكونه مالكا لجميع ما احتوته السماوات والأرض ، فكان هذا التقرير جاريا على طريقة التعريض إذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتبرؤ من أن يعبد غير الله . والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتخذوهم أولياء ، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر ( لا أجحد الحق ) لدلالة المقام على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يصدر منه ذلك ، كيف وقد علموا أنه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته ، وهذه السورة ما نزلت إلا بعد البعثة بسنين كثيرة ، كما استخلصناه مما تقدم في صدر السورة . وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسرين أن هذا القول أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم ، أي هو مثل ما في قوله تعالى : قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ، وهو لعمري مما يشعر به أسلوب الكلام ، وإن قال ابن عطية : إن ظاهر الآية لا يتضمنه كيف ولا بد للاستئناف من نكتة .

والاستفهام للإنكار . وقدم المفعول الأول لـ أتخذ على الفعل وفاعله ليكون مواليا للاستفهام لأنه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتخاذ الولي . وشأن همزة الاستفهام [ ص: 157 ] بجميع استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا ، فالتقديم للاهتمام به ، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بد من بيان وجه العناية ، وليس مفيدا للتخصيص في مثل هذا لظهور أن داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعين أن يكون لغرض غير ذلك . فمن جعل التقديم هنا مفيدا للاختصاص ، أي انحصار إنكار اتخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شراح الكشاف فقد تكلف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه . وكلام الكشاف بريء منه بل الحق أن التقديم هنا ليس إلا للاهتمام بشأن المقدم ليلي أداة الاستفهام فيعلم أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله وليا ، وأما ما زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم . ولعل الذي حداهم إلى ذلك أن المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل أفغير الله تأمروني أعبد ، أغير الله تدعون هو كلمة غير المضافة إلى اسم الجلالة ، وهي عامة في كل ما عدا الله ، فكان الله ملحوظا من لفظ المفعول فكان إنكار اتخاذ الله وليا لأن إنكار اتخاذ غيره وليا مستلزما عدم إنكار اتخاذ الله وليا ، لأن إنكار اتخاذ غير الله لا يبقى معه إلا اتخاذ الله وليا ; فكان هذا التركيب مستلزما معنى القصر وآئلا إليه وليس هو بدال على القصر مطابقة ، ولا مفيدا لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين ، ألا ترى أنه لو كان المفعول خلاف كلمة ( غير ) لما صح اعتبار القصر ، كما لو قلت : أزيدا أتتخذ صديقا ، لم يكن مفيدا إلا إنكار اتخاذ زيد صديقا من غير التفات إلى اتخاذ غيره ، وإنما ذلك لأنك تراه ليس أهلا للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك : أتتخذ زيدا صديقا ، إلا أنك أردت توجه الإنكار للمتخذ لا للاتخاذ اهتماما به . والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك .

ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جوابا لكلام هو المقصود منه كما في قوله : أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون وقوله : قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إلى قوله : قال أغير الله أبغيكم إلها . وأشار صاحب الكشاف في قوله : أغير الله أبغي ربا الآتي في آخر السورة إلى أن تقديم غير الله على أبغي لكونه جوابا عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم . قال الطيبي : لأن كل تقديم إما للاهتمام أو لجواب إنكار .

[ ص: 158 ] والولي : الناصر المدبر ، ففيه معنى العلم والقدرة . يقال : تولى فلانا ، أي اتخذه ناصرا . وسمي الحليف وليا لأن المقصود من الحلف النصرة . ولما كان الإله هو الذي يرجع إليه عابده سمي وليا لذلك . ومن أسمائه تعالى الولي .

والفاطر : المبدع والخالق . وأصله من الفطر وهو الشق . وعن ابن عباس : ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها . وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتخذ وليا ، فهو ناظر إلى قوله في أول السورة الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . وليس يغني عنه قوله قبله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله لأن ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسباب بقائهم إلى أجل .

وقوله : وهو يطعم جملة في موضع الحال ، أي يعطي الناس ما يأكلونه مما أخرج لهم من الأرض : من حبوب وثمار وكلأ وصيد . وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلم عندهم ، لأنهم يعترفون بأن الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة . وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون .

وأما قوله : ولا يطعم بضم الياء وفتح العين فتكميل دال على الغنى المطلق كقوله تعالى : وما أريد أن يطعمون . ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام . ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء ، إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أن الأصنام تنعم بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية