الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 378 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا

هذا إما استدلال ثان على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضى منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض ، فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات . وفصل الجملة السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالا لإيجادهم المشار إليه بقوله وكنتم أمواتا فأحياكم لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده .

ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين ، فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بعد وفي الثاني مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعا على أنه توهم لا يضير . وإما أن يكون قوله هو الذي خلق امتنانا عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالا بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله لكم فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفا . ولم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل . والخلق تقدم تفسيره عند قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر . الذي يعمره الإنسان والحيوان والنبات والمعادن وهي المواليد الثلاثة ، وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة ، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف ، فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه - وفي ذلك إتلاف المظروف والمشاهدة تنفي ذلك - وإما تقدم الظرف وذلك عبث .

فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى ، فمن البعيد أن يجوز صاحب الكشاف أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية ، وبعده من [ ص: 379 ] وجهين : أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازا كما في قول شاعر أنشده صاحب المفتاح في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه :

(

الناس أرض بكل أرض وأنت من فوقهم سماء

) بخلاف السماء فقد أطلقت على كل ما علا فأظل ، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد ، والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئا مرتفعا . الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة .

وجملة هو الذي خلق لكم صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نزلوا منزلة الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات . ونظير هذا قوله أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ، ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء ، والمقصود من الكلام فيما أراه موافقا للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازا بديعا بإقحام قوله لكم فأغنى عن جملة كاملة ، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى . وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم .

وفي هذه الآية فائدتان : الأولى أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس ، وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدته فتثار عنه مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض . والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافا يشبه أن يكون لفظيا ، فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حكم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل [ ص: 380 ] حصولها عند الفعل تثمر غايات ، هذا كله لا خلاف فيه . وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضا وعللا غائبة أم لا ؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالا بما ورد من نحو قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في التفسير مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيدا من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه ، فيكون مستفيدا من تلك الأولوية ، ويلزم من كون ذلك الغرض سببا في فعله أن يكون ، هو ناقصا في فاعليته محتاجا إلى حصول السبب ، وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل ، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فلا ، فرده الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة . وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبدا بل إنما تستلزم تعلق الإرادة ، وإنما تلزم الاستفادة لو ادعينا التعين والوجوب .

والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم : إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملا به وهذا سفسطة شبه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل ، والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه . الثانية قولهم : إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سببا يقتضي عجز الفاعل ، وهذا شبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب .

ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللا وأغراضا مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضا لأنها تكون داعيا للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته . ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها .

ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة ، فإن الأشاعرة [ ص: 381 ] لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أورد عليهم المعتزلة أو قدروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة . وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعل الله بالنسبة إليه منفعة .

هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد ، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في تفسيره فقال : هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة .

الفائدة الثانية : أخذوا من قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقا لأجلنا وامتن بذلك علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب الكشاف - ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي . وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة - إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلا ، قال ابن العربي في أحكامه : إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم إلخ . والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه ، بل خلق لنا في الجملة ، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم ، بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لاسيما وقد خاطب الله بها قوما كافرين منكرا عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعا ، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة .

وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة ، فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي . قال الحموي في شرح كتاب الأشباه لابن نجيم نقلا عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة في [ ص: 382 ] حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب .

وعندي أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم . وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك ، فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل ، وهذا الذي اختاره الإمام في المحصول ، فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية