الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2310 ] واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46) قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48) فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50) واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53) واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55) واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58) فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا .يظلمون شيئا (60) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61) لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (62) تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (63) [ ص: 2311 ] وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64) رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65)

                                                                                                                                                                                                                                      انتهت قصة ميلاد عيسى بكشف ما في أسطورة الولد من نكارة وكذب وضلال; وهي التي يستند إليها بعض أهل الكتاب في عقائدهم الفاسدة. وتليها في السورة حلقة من قصة إبراهيم تكشف عما في عقيدة الشرك من نكارة وكذب وضلال كذلك. وإبراهيم هو الذي ينتسب إليه العرب. ويقول المشركون: إنهم سدنة البيت الذي بناه هو وإسماعيل .

                                                                                                                                                                                                                                      وتبدو في هذه الحلقة شخصية إبراهيم الرضي الحليم.. تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يحكي القرآن الكريم ترجمتها بالعربية، وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه. كما تتجلى رحمة الله به وتعويضه عن أبيه وأهله المشركين ذرية صالحة تنسل أمة كبيرة، فيها الأنبياء وفيها الصالحون. وقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ينحرفون عن الصراط الذي سنه لهم أبوهم إبراهيم. هم هؤلاء المشركون..

                                                                                                                                                                                                                                      ويصف الله إبراهيم بأنه كان صديقا نبيا. ولفظة صديق تحتمل معنى أنه كثير الصدق وأنه كثير التصديق. وكلتاهما تناسب شخصية إبراهيم :

                                                                                                                                                                                                                                      واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا.. .

                                                                                                                                                                                                                                      بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، وعلمه إياه وهو يتحبب إليه فيخاطبه: يا أبت

                                                                                                                                                                                                                                      ويسأله: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟ والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى. وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى. فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا. إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه هي اللمسة الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه. ثم يتبعها بأنه لا يقول هذا من نفسه، إنما هو العلم الذي جاءه من الله فهداه. ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة، ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف الحق; فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم، ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فليست هناك غضاضة في أن يتبع الوالد ولده، إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى. فإنما يتبع ذلك المصدر، ويسير في الطريق إلى الهدى.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذا الكشف عما في عبادة الأصنام من نكارة، وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه في دعوة أبيه.. يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان، وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن، فهو يخشى [ ص: 2312 ] أن يغضب الله عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أبت لا تعبد الشيطان. إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا .

                                                                                                                                                                                                                                      والشيطان هو الذي يغري بعبادة الأصنام من دون الله، فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص للرحمن. وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب الله عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان وتابعا. فهداية الله لعبده إلى الطاعة نعمة; وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة.. نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح يوم يقوم الحساب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك. واهجرني مليا .

                                                                                                                                                                                                                                      أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها؟ أوبلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة؟! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع: لئن لم تنته لأرجمنك ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا. استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة: واهجرني مليا ..

                                                                                                                                                                                                                                      بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى. وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب. وذلك شأن الإيمان مع الكفر; وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يغضب إبراهيم الحليم. ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: سلام عليك. سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا. وأعتزلكم وما تدعون من دون الله، وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .

                                                                                                                                                                                                                                      سلام عليك.. فلا جدال ولا أذى ولا رد للتهديد والوعيد. سأدعو الله أن يغفر لك فلا يعاقبك بالاستمرار في الضلال وتولي الشيطان، بل يرحمك فيرزقك الهدى. وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي. وإذا كان وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى الإيمان تؤذيك فسأعتز لك أنت وقومك، وأعتزل ما تدعون من دون الله من الآلهة. وأدعو ربي وحده، راجيا - بسبب دعائي لله - ألا يجعلني شقيا.

                                                                                                                                                                                                                                      فالذي يرجوه إبراهيم هو مجرد تجنيبه الشقاوة.. وذلك من الأدب والتحرج الذي يستشعره. فهو لا يرى لنفسه فضلا، ولا يتطلع إلى أكثر من تجنيبه الشقاوة!

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره، فلم يتركه الله وحيدا. بل وهب له ذرية وعوضه خيرا:

                                                                                                                                                                                                                                      فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب. وكلا جعلنا نبيا. ووهبنا لهم من رحمتنا، وجعلنا لهم لسان صدق عليا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإسحاق هو ابن إبراهيم ، رزقه من سارة - وكانت قبله عقيما - ويعقوب هو ابن إسحاق : ولكنه يحسب ولدا لإبراهيم لأن إسحاق رزقه في حياة جده، فنشأ في بيته وحجره، وكان كأنه ولده المباشر; وتعلم ديانته ولقنها بنيه. وكان نبيا كأبيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ووهبنا لهم من رحمتنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم.. والرحمة تذكر هنا لأنها السمة البارزة [ ص: 2313 ] في جو السورة، ولأنها هبة الله التي تعوض إبراهيم عن أهله ودياره، وتؤنسه في وحدته واعتزاله.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلنا لهم لسان صدق عليا .. فكانوا صادقين في دعوتهم، مسموعي الكلمة في قومهم. يؤخذ قولهم بالطاعة وبالتبجيل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية