الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 593 ] الثانية : يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه ، خلافا لقوم .

                لنا : لا محال ذاتي ، ولا خارجي .

                قالوا : يمكنه التحقيق بالوحي ، والاجتهاد عرضة الخطأ .

                قلنا : الظن متبع شرعا ولا يخطئ لعصمة الله له ، أو لا يقر عليه فيستدرك ، أما وقوعه فاختلف فيه أصحابنا والشافعية ، وأنكره أكثر المتكلمين .

                لنا : ( اعتبروا ) وهو عام ، فيجب الامتثال ، وعوتب في أسارى بدر والإذن للمخلفين ، ولو كان نصا لما عوتب ، وقال : إلا الإذخر و لو قلت : نعم . لوجبت و لو سمعت شعرها لما قتلته ، وقال له السعدان والحباب : إن كان هذا بوحي فسمع وطاعة ، وإن كان باجتهاد فليس هذا هو الرأي ، فقال : بل باجتهاد ورأي رأيته ورجع إلى قولهم .

                وقد حكم داود - عليه السلام - باجتهاده وإلا لما خالفه سليمان ، وإلا لما خص بالتفهيم .

                التالي السابق


                المسألة " الثانية : يجوز أن يكون النبي - عليه الصلاة والسلام - متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه ، خلافا لقوم " .

                اعلم أن ما فيه نص إلهي ؛ لا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد فيه بخلاف النص شرعا ، لقوله - عز وجل - : اتبع ما أوحي إليك [ الأنعام : 106 ] . أما ما [ ص: 594 ] لا نص فيه ، فهل هو متعبد بالاجتهاد فيه أم لا ؟ والمذاهب فيه أربعة :

                أحدها : الإثبات ، وهو مذهب أحمد ، والقاضي أبو يوسف .

                والثاني : النفي ، وهو قول أبي علي الجبائي ، وابنه أبي هاشم .

                والثالث : الإثبات في الحروب والآراء ، دون الأحكام الشرعية .

                والرابع : تجويزه من غير قطع به . حكاه الآمدي عن الشافعي في رسالته .

                قال : وبه قال بعض الشافعية ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري .

                والتحقيق أن الكلام في جواز ذلك ووقوعه ، والأصح جوازه ، إذ لا يلزم منه محال ، ولا أحسب أحدا ينازع في الجواز عقلا ، إنما ينازع من ينازع فيه شرعا .

                وأما الوقوع ، فحكى الغزالي فيه أقوالا ، ثالثها الوقف واختاره . وقال القرافي : توقف أكثر المحققين في الكل ، واختار الآمدي الجواز والوقوع .

                وذكر القرافي أن الشافعي وأبا يوسف قالا بالوقوع .

                قوله : " لنا " ، أي : الدليل على جواز كونه متعبدا بالاجتهاد أنه " لا محال " فيه " ذاتي ولا خارجي " ، أي : لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ، ولا لأمر خارج ، وكل ما كان كذلك ، فهو جائز .

                قوله : " قالوا : " . هذه حجة الخصم .

                وتقريرها : أنه - عليه السلام - يمكنه تحقيق الأحكام ، وتحقيقها بالوحي ، " والاجتهاد عرضة الخطأ " فلا يجوز المصير إليه مع القدرة على الصواب قطعا . وهذا نحو مما سبق لهم في المسألة قبلها .

                قوله : " قلنا : " ، أي : الجواب عما ذكرتموه من وجهين :

                أحدهما : أن " الظن متبع " في الشرع ، واجتهاده - عليه السلام - أقل أحواله [ ص: 596 ] أن يفيد الظن ، فيجب اتباعه كغيره ، وأولى .

                الثاني : أن الاجتهاد يفيد الظن ، وظنه - عليه السلام - لا يخطئ لعصمة الله - عز وجل - له ، بخلاف غيره من الناس ، أو يخطئ لكنه لا يقر عليه ، بل ينبه على الخطأ ، فيستدركه ، والكلام في " المختصر " إلى ههنا في الجواز .

                ومما يدل عليه : مسألة التفويض ، وهي ما إذا قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احكم برأيك ، فإنك لا تحكم إلا بالحق ، والصحيح جوازه . وهو اجتهاد فيما لا نص فيه ، وفيه نظر .

                قوله : " أما وقوعه " ، أي : وقوع الاجتهاد منه فيما لا نص فيه ، " فاختلف فيه أصحابنا والشافعية ، وأنكره أكثر المتكلمين " . وقد سبقت حكاية المذاهب فيه .

                قوله : لنا " اعتبروا " إلى آخره . أي : لنا على وقوعه وجوه :

                أحدها : قوله - عز وجل - : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] ، وهو عام في الرسول وغيره ، فيتناوله الأمر بالاعتبار ، وهو الاجتهاد ، ويجب عليه الامتثال ، وإلا كان عاصيا ، وهو مع عصمة النبوة محال .

                قلت : هذا يقتضي وجوب الاجتهاد عليه .

                الوجه الثاني : أنه - عليه السلام - " عوتب في أسارى بدر " ، حيث قبل منهم الفداء ، ولم يقتلهم ، بقوله تعالى : ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله - عز وجل - : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 67 ، 68 ] ، وعوتب في إذنه للمخلفين عن القتال في غزاة تبوك ، بقوله - عز وجل - : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : [ ص: 596 ] 43 ] ، ولو كان ذلك عملا منه بالنص ، لما عوتب ، فدل على أنه كان بالاجتهاد .

                الوجه الثالث : أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال في شأن مكة شرفها الله تعالى : لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها قال العباس - رضي الله عنه - : إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنه لبيوتنا وقبورنا - أو : لقبورنا - فقال : إلا الإذخر . وهذا يدل على أنه استثناه باجتهاده ، إجابة للعباس - رضي الله عنه - إلى المصلحة العامة ، إذ لو دخل الإذخر في عموم المنع منه ؛ لما جاز أن يجيب العباس إليه .

                ولما سأله الأقرع بن حابس عن الحج : ألعامنا هذا ، أم للأبد ؟ قال : للأبد ، ولو قلت : لعامنا ، لوجبت الكلمة أو الحجة مكررة كل عام . وهذا يدل على أنه قاله باجتهاده .

                قلت : إنما يدل هذا على جواز الاجتهاد إن دل ، والكلام في الوقوع . ولما قتل النضر بن الحارث ببدر ، جاءت أخته قتيلة بنت الحارث ، فأنشدته أبياتا منها : [ ص: 597 ]

                أمحمد ولأنت نجل كريمة من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما
                من الفتى وهو المغيظ المحنق



                فقال - عليه السلام - : لو سمعت شعرها قبل قتله ، ما قتلته ، ولو قتله بالنص ، لما قال ذلك .

                " وقال له السعدان " : يعني سعد بن معاذ وسعد بن عبادة - رضي الله عنهما - لما أراد صلح الأحزاب على شطر نخل المدينة ، وقد كتب بعض الكتاب بذلك : إن كان بوحي ، فسمعا وطاعة ، " وإن كان باجتهاد ، فليس هذا هو الرأي " ، وكذلك الحباب بن المنذر ؛ لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل ببدر دون الماء ؛ قال له : إن كان هذا بوحي ، فنعم ، وإن كان الرأي والمكيدة ، فانزل بالناس على الماء ، لتحول بينه وبين العدو ، فقال لهم : ليس بوحي إنما هو رأي واجتهاد رأيته " ورجع إلى قولهم " ، فدل على أنه متعبد بالاجتهاد .

                [ ص: 598 ] قلت : ومن يفرق بين الحروب والآراء ، والأحكام لا يلزمه هذا ، ولا قصة النضر بن الحارث ، وفداء الأسارى ، والإذن للمخلفين ، لأنها من متعلقات الحروب .

                ويرد على هذه الصور جميعها جواز اقتران الوحي بها ، أو تقدمه عليها ، بأن يكون قد أوحي إليه : إذا كان كذا فافعل كذا ، وتخصيص قضية الحج بأن يكون معنى كلامه : لو قلت : لعامنا ، لما قلت إلا عن وحي ، ولوجب - لا محالة - تكراره .

                الوجه الرابع : أن داود وسليمان عليهما السلام حكما في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم باجتهادهما ، أما داود ؛ فلأنه لو لم يكن حكم باجتهاده ، لما جاز لسليمان - عليه السلام - أن يخالفه ، ولا لداود أن يرجع إليه ، وأما سليمان ؛ فلأنه لو لم يكن حكم باجتهاده ، لما خص بالتفهيم بقوله - سبحانه وتعالى - : ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 79 ] على طريق المدح .

                ولقائل أن يقول : يحتمل أن سليمان لم يعلم أن داود حكم بالوحي ، فلذلك خالفه ، وأن تفهيم سليمان كان بالنص كقوله - عز وجل - : وعلمك ما لم تكن تعلم [ النساء : 113 ] وهو بالوحي .

                ويجاب عنه : بأن داود لو حكم بالوحي ، لما رجع إلى قول سليمان ، ولرجع سليمان عن رأيه لما علم بالوحي ، وسليمان لم يكن بعد قد أوحي إليه ، لأن القصة كانت وهو صبي بعد . وفي هذه القصة دليل على جواز تعبد نبينا - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده ، لأن هذين نبيان قد حكما باجتهادهما . وقد أمر أن يقتدي بهما وبغيرهما من الأنبياء ، لقوله - عز وجل - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] . ولقائل أن يقول : الأمر بالاقتداء بهم مطلق لا عموم له ، فلا يتناول الحكم بالاجتهاد .




                الخدمات العلمية