الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 188 ] إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم .

الأظهر أن هذه الجملة متصلة بجملة ولهم في الآخرة عذاب عظيم اتصال البيان ; فهي مبينة للجملة السابقة تهويلا للعذاب الذي توعدهم الله به في قوله : ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم فإن أولئك المحاربين الذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله ، فلما ذكر جزاؤهم عقب بذكر جزاء يشملهم ويشمل أمثالهم من الذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية السابقة مرادا بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين .

والشرط في قوله : لو أن لهم ما في الأرض مقدر بفعل دلت عليه ( أن ) إذ التقدير : لو ثبت ما في الأرض ملكا لهم; فإن ( لو ) لاختصاصها بالفعل صح الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت ( أن ) بعدها . وقوله : ومثله معه معطوف على ما في الأرض ، ولا حاجة إلى جعله مفعولا معه للاستغناء عن ذلك بقوله : ( معه ) . واللام في ليفتدوا به لتعليل الفعل المقدر ، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه .

وأفرد الضمير في قوله : ( به ) مع أن المذكور شيئان هما : ما في الأرض " ومثله " : إما على اعتبار الضمير راجعا إلى ما في الأرض فقط ، ويكون قوله : ومثله معه معطوفا مقدما من تأخير . وأصل الكلام لو أن لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه . ودل على اعتباره مقدما من تأخير إفراد الضمير المجرور بالباء . ونكتة التقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض . وإما - وهو الظاهر عندي - أن يكون الضمير عائدا إلى ومثله معه لأن ذلك المثل شمل [ ص: 189 ] ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنه قد اندرج في مثله الذي معه .

ويجوز أن يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في صحة استعماله مفردا مع كونه عائدا إلى متعدد على تأويله بالمذكور; وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى عوان بين ذلك أي بين الفارض والبكر ، وقوله : ومن يفعل ذلك يلق أثاما إشارة ما ذكر من قوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، لأن الإشارة صالحة للشيء وللأشياء ، وهو قليل في الضمير ، لأن صيغ الضمائر كثيرة مناسبة لما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع ، وهو قليل ولكنه فصيح ، ومنه قوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أي بالمذكور . وقد جعله في الكشاف محمولا على اسم الإشارة ، وكذلك تأوله رؤبة لما أنشد قوله : :


فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

فقال أبو عبيدة : قلت لرؤبة : إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، وإن أردت السواد فقل : كأنهما ، فقال : أردت كأن ذلك ويلك . ومنه في الضمير قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا . وقد تقدم عند قوله تعالى عوان بين ذلك في سورة البقرة .

وقوله : ولهم عذاب مقيم أي دائم تأكيد لقوله : وما هم بخارجين منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية