الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 356 ] قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون

جملة كلما رزقوا يجوز أن تكون صفة ثانية لـ ( جنات ) ويجوز أن تكون خبرا عن مبتدأ محذوف وهو ضمير الذين آمنوا فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شئون الذين آمنوا ، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة أن لهم جنات فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة .

وكلما ظرف زمان لأن " كل " أضيفت إلى " ما " الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط ، لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقا على الأزمان مقيدة بمدلول فعل الشرط ، ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما ومهما . والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طريانا غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها .

وإذ كانت كلما نصا في عموم الأزمان تعين أن قوله ( من قبل ) المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة . وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم . ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري . ويحتمل أن في ذلك تعجيبا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر . وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق . ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة ، ومعنى ( من قبل ) في المرة الأولى من دخول الجنة .

ومن المفسرين من حمل قوله ( من قبل ) على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، ووجهه في الكشاف بأن الإنسان بالمألوف آنس وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مرادا به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجيب ، ولأن من أهل الجنة من [ ص: 357 ] لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه . وقوله وأتوا به متشابها ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا . ثم من الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة .

والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان منفردا زوجا ، وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة يعني عائشة وقال الفرزدق :

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستميلها

وقوله وهم فيها خالدون احتراس من توهم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال ، وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو الطيب :


أشد الغم عندي في سرور     تحقق عنه صاحبه انتقالا

وقوله مطهرة هو بزنة الإفراد ، وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرا لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك ، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية