الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين .

فصلت هذه الجمل الأربع جريا على طريقة المحاورة كما بيناه سالفا في سورة البقرة . والرجلان هما يوشع وكالب . ووصف الرجلان بأنهم ( من الذين يخافون ) فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله : " يخافون " الخوف من العدو ; فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل . جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمة الخوف وعدم الشجاعة ، فيكون ( من ) في قوله : من الذين يخافون اتصالية وهي التي في نحو قولهم : لست منك ولست مني ، أي ينتسبون إلى الذين يخافون . وليس المعنى أنهم متصفون بالخوف بقرينة أنهم [ ص: 165 ] حرضوا قومهم على غزو العدو ، وعليه يكون قوله : أنعم الله عليهما أن الله أنعم عليهما بالشجاعة ، فحذف متعلق فعل ( أنعم ) اكتفاء بدلالة السياق عليه .

ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوف من الله تعالى ، أي كان قولهما لقومهما ادخلوا عليهم الباب ناشئا عن خوفهما الله تعالى ، فيكون تعريضا بأن الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى ، ويكون قوله : أنعم الله عليهما استئنافا بيانيا لبيان منشأ خوفهما الله تعالى ، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما . وهذا يقتضي أن الشجاعة في نصر الدين نعمة من الله على صاحبها .

ومعنى أنعم الله عليهما أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة .

و " الباب " يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدسة ، أي المسالك التي يسلك منها إلى أرض كنعان ، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعرين ، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله : ادخلوا الأرض المقدسة ، فأرادا : فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم . وقد يسمى الثغر البحري بابا أيضا ، مثل باب المندب ، وسموا موضعا بجهة بخارى الباب . وحمل المفسرون الباب على المشهور المتعارف ، وهو باب البلد الذي في سوره ، فقالوا : أرادا باب قريتهم ، أي لأن فتح مدينة الأرض يعد ملكا لجميع تلك الأرض . والظاهر أن هذه القرية هي ( أريحا ) أو ( قادش ) حاضرة العمالقة يومئذ ، وهي المذكورة في سورة البقرة . والباب بهذا المعنى هو دفة عظيمة متخذة من ألواح توصل بجزأي جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادا لتلك الفرجة متى أريد سدها وبأن تفتح عند إرادة فتحها; فيسمى السد به غلقا وإزالة السد فتحا .

وبعد أن أمرا القوم باتخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله ، ولذلك ذيلا بقولهما إن كنتم مؤمنين ، لأن الشك في صدق الرسول مبطل للإيمان .

[ ص: 166 ] وإنما خاطبوا موسى عقب موعظة الرجلين لهم ، رجوعا إلى إبايتهم الأولى التي شافهوا بها موسى إذ قالوا إن فيها قوما جبارين ، أو لقلة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكدوا الامتناع الثاني من الدخول بعد المحاورة أشد توكيد . دل على شدته في العربية ثلاث مؤكدات : إن ، ولن ، وكلمة أبدا .

ومعنى قولهم فاذهب أنت وربك فقاتلا إن كان خطابا لموسى أنهم طلبوا منه معجزة كما تعودوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبارين بدعوة موسى .

وقيل : أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى ، وهذا بعيد ، لأنهم ما كانوا يشكون في رسالته ، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جوابا عن مقالتهم هذه إلا وصفهم بالفاسقين . والفسق يطلق على المعصية الكبيرة ، فإن عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة ، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى المقداد بن الأسود النبيء وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال : يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون الحديث .

فلا تظنن من ذلك أن هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر ، لأن سورة المائدة من آخر ما نزل ، وإنما تكلم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدثهم به عن بني إسرائيل ، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللفظ .

قال أي موسى ، مناجيا ربه أو بمسمع منهم ليوقفهم على عدم امتثالهم أمر ربهم رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، يجوز أن يكون المعنى لا أقدر إلا على نفسي وأخي ، وإنما لم يعد الرجلين اللذين قالا ادخلوا عليهم الباب ، لأنه خشي أن يستهويهما قومهما . والذي في كتب اليهود أن هارون كان قد توفي قبل هذه الحادثة . ويجوز أن يريد بأخيه يوشع بن نون لأنه كان [ ص: 167 ] ملازمه في شئونه ، وسماه الله فتاه في قوله : وإذ قال موسى لفتاه الآية . وعطفه هنا على نفسه لأنه كان محرضا للقوم على دخول القرية .

ومعنى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين أن لا تؤاخذنا بجرمهم ، لأنه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النجاة ، ولا يصح أن يريد الفرق بينهم في الآخرة ، لأنه معلوم أن الله لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم ، ولأن براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله ، ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضالين على غلطهم .

وقول الله تعالى له فإنها محرمة عليهم أربعين سنة إلخ جواب عن قول موسى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمنه كلام موسى : لأن الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الذين عصوا أمره ، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعم الجميع ، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصارا لموسى . فإن قلت : هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومه ، فإنه بقي معهم في التيه حتى توفي . قلت : كان ذلك هينا على موسى لأن بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصيصة رسالته ، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة ، أما هم فكانوا في مشقة .

يتيهون يضلون ، ومصدره التيه بفتح التاء وسكون الياء والتيه بكسر التاء وسكون التحتية . وسميت المفازة تيهاء وسميت تيها . وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتى بلغوا جبل ( نيبو ) على مقربة من نهر ( الأردن ) ، فهنالك توفي موسى عليه السلام وهنالك دفن . ولا يعرف موضع قبره كما في نص كتاب اليهود . وما دخلوا الأرض المقدسة حتى عبروا الأردن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى . وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنة ، لأنهما لم يقولا : لن ندخلها . وأما بقية الرواد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها .

[ ص: 168 ] وقوله : فلا تأس على القوم الفاسقين تفريع على الإخبار بهذا العقاب ، لأنه علم أن موسى يحزنه ذلك ، فنهاه عن الحزن لأنهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم . والأسى : الحزن ، يقال أسي كفرح إذا حزن .

التالي السابق


الخدمات العلمية