الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير .

مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدل على غباوتهم في الكفر إذ [ ص: 156 ] يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى ، ثم هو مناقض لمقالاتهم الأخرى . عطف على المقال المختص بالنصارى ، وهو جملة لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح . وقد وقع في التوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله; ففي سفر التثنية أول الفصل الرابع عشر قول موسى " أنتم أولاد للرب أبيكم " . وأما الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح ، وبأبي المؤمنين به ، وتسمية المؤمنين أبناء الله في متى في الإصحاح الثالث " وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " ، وفي الإصحاح الخامس " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون " . وفي الإصحاح السادس " وأبوكم السماوي يقوتها " . وفي الإصحاح العاشر " لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم " . وكلها جائية على ضرب من التشبيه فتوهمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها .

وعطف " وأحباؤه " على أبناء الله أنهم قصدوا أنهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوبا عليه .

وقد علم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقضين : أولهما من الشريعة ، وهو قوله : قل فلم يعذبكم بذنوبكم يعني أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم ، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم ، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه . روي أن الشبلي سأل أبا بكر بن مجاهد : أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يهتد ابن مجاهد ، فقال له الشبلي في قوله : قل فلم يعذبكم بذنوبكم .

وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر ، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم ، لأن ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للرد به ، إذ يصير الرد مصادرة ، بل المقصود الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم ، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدنيا . فأما اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . وأما النصارى فلم أر في الأناجيل ذكرا لعذاب الآخرة إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني [ ص: 157 ] آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم ، فجاء عيسى ابن مريم مخلصا وشافعا وعرض نفسه للصلب ليكفر عن البشر خطيئتهم الموروثة ، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة عيسى فحصل الرد عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا .

ثم أخذت النتيجة من البرهان بقوله : بل أنتم بشر ممن خلق أي ينالكم ما ينال سائر البشر .

وفي هذا تعريض أيضا بأن المسيح بشر ، لأنه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف ، وزعموا أنه ناله الصلب والقتل .

وجملة قوله : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء كالاحتراس ، لأنه لما رتب على نوال العذاب إياهم أنهم بشر دفع توهم النصارى أن البشرية مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تبعة خطيئة آدم فقال يغفر لمن يشاء ، أي من البشر ويعذب من يشاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية