الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم .

وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وليته ، يعين أن تكون متصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب الكشاف ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضا .

ولا شك أنه يعني باتصال هذه الجملة بما قبلها : اتصال الكلام الناشئ عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنه لما تضمنت الآيات تحريم كثير مما كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرضة للمخمصة عند انحباس الأمطار ، أو في شدة كلب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم .

فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذنا بتوقع منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن [ ص: 109 ] يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة ( فمن اضطر في مخمصة ) الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف ( من اضطر في مخمصة ) عليه .

والأحسن عندي أن يكون موقع ( فمن اضطر في مخمصة ) متصلا بقوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) اتصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منة جزئية على منة كلية ، وذلك أن الله امتن في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرات : مرة بوصفه في قوله ( دينكم ) ، ومرة بالعموم الشامل له في قوله ( نعمتي ) ، ومرة باسمه في قوله ( الإسلام ) ; فقد تقرر بينهم : أن الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلما علمهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله ( فمن اضطر ) الخ ; فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرع على قوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) وتعقب المنة العامة بالمنة الخاصة .

والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى ثم أضطره إلى عذاب النار في سورة البقرة .

والمخمصة : المجاعة ، اشتقت من الخمص وهو ضمور البطن ، لأن الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث تغدو خماصا وتروح بطانا . والتجانف : التمايل ، والجنف : الميل ، قال تعالى فمن خاف من موص جنفا الآية . والمعنى أنه اضطر غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين . وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرمات إذا كان رائما بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن [ ص: 110 ] يتناول ما في أيدي الناس بالغصب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين .

ووقع قوله فإن الله غفور رحيم مغنيا عن جواب الشرط لأنه كالعلة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن . والتقدير : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فله تناول ذلك إن الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية