الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .

إن كانت آية اليوم أكملت لكم دينكم نزلت يوم حجة الوداع بعد آية اليوم يئس الذين كفروا من دينكم بنحو العامين ، كما قال الضحاك ، كانت جملة مستقلة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبيء - صلى الله عليه وسلم - بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدين ، اعتقادا وتشريعا ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معا يوم الحج الأكبر ، عام حجة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين . وفي كلام ابن عطية أنه منسوب إلى عمر بن الخطاب ، وذلك هو الراجح الذي عول عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليوم المذكور في هذه وفي التي قبلها يوما واحدا ، وكانت هذه الجملة تعدادا لمنة أخرى ، وكان فصلها عن التي قبلها جاريا على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ ( اليوم ) ليتعلق بقوله ( أكملت ) ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلق بقوله ( يئس ) فلم يقل : ( وأكملت لكم دينكم ) .

[ ص: 103 ] والدين : ما كلف الله به الأمة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام في سورة آل عمران . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقوله لتبين للناس ما نزل إليهم بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة ، كافيا في هدي الأمة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثم اتسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكن رسوخه ، حتى استكملت جامعة المسلمين كل شئون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمة كأكمل ما تكون أمة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ . وليس في ذلك ما يشعر بأن الدين كان ناقصا ، ولكن أحوال الأمة في الأممية غير مستوفاة ، فلما توفرت كمل الدين لهم ، فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعله ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنه تأكيد لما تقرر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنة . فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، مما فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنها نزلت قبل هذه الآية وأن هذه الآية لما نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبيء بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أن المسلمين أضاعوا كل أثارة من علم - والعياذ بالله - ولم يبق بينهم إلا القرآن لاستطاعوا [ ص: 104 ] الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي القرآن ، مع اختصاره ، جامع . ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كلية ، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، وأنت تعلم : أن الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبين جميع أحكامها في القرآن ، إنما بينتها السنة ، وكذلك العاديات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية ، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريات ، والحاجيات ، والتحسينات ومكمل كل واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلة : وهو السنة ، والإجماع ، والقياس ، إنما نشأ عن القرآن . وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله " ، فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : " لعنت كذا وكذا " فذكرته ، فقال عبد الله : " وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله " ، فقالت المرأة : " لقد قرأت ما بين لوحي المصحف ، فما وجدته " ، فقال : " لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه " . قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا اهـ . فكلام ابن مسعود يشير إلى أن القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنه الحجة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أن المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأن كلياته وأوامره المفصلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمة ، المتلقين عنه ، ولذلك لما اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبيء لهم كتابا في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أن أحدا قصر نفسه على علم القرآن فوجد ( أقيموا الصلاة ) وآتوا حقه يوم حصاده و كتب عليكم الصيام و وأتموا الحج والعمرة لله ، لتطلب بيان ذلك مما تقرر من عمل سلف الأمة ، [ ص: 105 ] وأيضا ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم .

فلا شك أن أمر الإسلام بدأ ضعيفا . ثم أخذ يظهر ظهور سنا الفجر ، وهو في ذلك كله دين ، يبين لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد أسلم كثير من أهل مكة ، ومعظم أهل المدينة ، فلما هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لما فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكن الدين وخدمته القوة ، فأصبح مرهوبا بأسه ، ومنع المشركين من الحج بعد عام ، فحج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تبين واضحا يوم الحج الذي نزلت فيه هذه الآية .

لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأن الدين في كل يوم ، من وقت البعثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوما فيوما ، فمن كان من المسلمين آخذا بكل ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .

وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة .

وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسر في الحديث بما يشمل الحج ، إذ قد مكنهم يومئذ [ ص: 106 ] من أداء حجهم دون معارض ، وقد كمل أيضا سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكنه من قلب بلاد العرب ، فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .

ولا يصح أن يكون المراد من الدين القرآن : لأن آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقية سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنها آخر آية نزلت ، وسورة إذا جاء نصر الله كذلك ، وقد عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آية اليوم أكملت لكم دينكم نحوا من تسعين يوما ، يوحى إليه .

ومعنى ( اليوم ) في قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) نظير معناه في قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم .

وقوله وأتممت عليكم نعمتي إتمام النعمة : هو خلوصها مما يخالطها : من الحرج ، والتعب .

وظاهره أن الجملة معطوفة على جملة ( أكملت لكم دينكم ) فيكون متعلقا للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلا يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكنهم من الحج آمنين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوع إليهم أعداءهم يوم حجة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمها عليهم ، فلذلك قيد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجة الوداع على أصح الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفا ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أن مكنهم من أشد أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله ( أكملت لكم دينكم ) إلا على تأويلات بعيدة .

وظاهر العطف يقتضي : أن تمام النعمة منة أخرى غير إكمال الدين ، [ ص: 107 ] وهي نعمة النصر ، والأخوة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عام على خاص . وجوزوا أن يكون المراد من النعمة الدين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحدا ، ويكون العطف لمجرد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أن الدين نعمة وأن إكماله إتمام للنعمة ; فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفراء في معاني القرآن :


إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم

وقوله ورضيت لكم الإسلام دينا الرضى بالشيء الركون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئا لنفسه فيقول : رضيت بكذا ، وقد يرضى شيئا لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدى باللام : للدلالة على أن رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث : إن الله يرضى لكم ثلاثا ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله ( لكم ) وعدي ( رضيت ) إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أن جملة ( رضيت ) معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأن تعلق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام دينا اليوم . وإذ قد كان رضى الإسلام دينا للمسلمين ثابتا في علم الله ذلك اليوم وقبله ، تعين التأويل في تعليق ذلك الظرف بـ ( رضيت ) ; فتأوله صاحب الكشاف بأن المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله ( اليوم ) ، لأن الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به دينا لهم يومئذ ، لأن الرضى به حاصل من قبل ، كما دلت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أن ( رضيت ) مجاز في معنى ( أذنت ) لعدم استقامة ذلك : لأنه يزول منه معنى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنه لا يصلح للتعدي إلى قوله ( الإسلام ) . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعينة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل [ ص: 108 ] هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيرا في الدلالة على كون المخبر عالما به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .

وقد يدل قوله ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) على أن هذا الدين دين أبدي : لأن الشيء المختار المدخر لا يكون إلا أنفس ما أظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أن نسخ الأحكام قد انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية