الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 404 ] النوع الثاني السبر : وهو إبطال كل علة علل بها الحكم المعلل إجماعا ، إلا واحدة فتعين; نحو : علة الربا الكيل أو الطعم أو القوت ، والكل باطل إلا الأولى ، فإن لم يجمع على تعليله ، جاز ثبوته تعبدا ، فلا يفيد . وكذا إن لم يكن سبره حاصرا بموافقة خصمه ، أو عجزه عن إظهار وصف زائد فيجب إذا على خصمه تسليم الحصر ، أو إبراز ما عنده لينظر فيه ، فيفسده ببيان بقاء الحكم مع حذفه ، أو ببيان طرديته ، أي : عدم التفات الشرع إليه في معهود تصرفه ، ولا يفسد الوصف بالنقض لجواز كونه جزء علة أو شرطها ، فلا يستقل بالحكم ، ولا يلزم من عدم استقلاله صحة علة المستدل بدونه ، ولا بقوله : لم أعثر بعد البحث على مناسبة الوصف ، فيلغى ، إذ يعارضه الخصم بمثله في وصفه ، وإذا اتفق خصمان على فساد علة من عداهما ، فإفساد أحدهما علة الآخر دليل على صحة علته عند بعض المتكلمين ، والصحيح خلافه ، إذ اتفاقهما لا يقتضي فساد علة غيرهما ، وكل منهما يعتقد فساد علة غيره من حاضر وغائب ، فيستويان ، فطريق التصحيح ما سبق .

                التالي السابق


                " النوع الثاني " : من أنواع إثبات العلة بالاستنباط إثباتها بالسبر ، وقد سبق في موضع من هذا الكتاب بيانه لغة ، وحاصله يرجع إلى الاختبار ، ولذلك سمي ما يختبر به طول الجرح وعرضه : مسبارا .

                قوله : " وهو " يعني السبر في الاصطلاح : " إبطال كل علة علل بها الحكم المعلل إجماعا " أي : بالإجماع ، " إلا واحدة فتتعين " . ومعنى ذلك أن [ ص: 405 ] المستدل بالقياس إذا أراد أن يبين أن علة الأصل المقيس عليه كذا ليلحق به الفرع المقيس ، وأراد تبيين العلة بالسبر والتقسيم ، ذكر كل علة علل بها حكم الأصل ، ثم يبطل الجميع إلا العلة التي يختارها ، فيتعين التعليل بها ، فيثبت الحكم في الفرع بواسطتها ، مثل أن يقول : " علة الربا " في البر ونحوه إما " الكيل أو الطعم أو القوت ، والكل " أي : العلل كلها باطلة " إلا الأولى " مثلا ، وهي الكيل إن كان حنبليا أو حنفيا ، أو إلا الطعم إن كان شافعيا ، أو إلا القوت إن كان مالكيا ، فيتعين للتعليل ، ويلحق الأرز والذرة ونحو ذلك بالبر بجامع الكيل ، ويقيم الدليل على بطلان ما أبطله ، إما بانتقاضه انتقاضا مؤثرا ، أو بعدم مناسبته ، أو غير ذلك بحسب الإمكان والاتفاق .

                وقد تضمنت الجملة المذكورة من عبارة " المختصر " أنه يشترط لصحة السبر أمور :

                أحدها : أن يكون الحكم في الأصل معللا ، إذ لو كان تعبدا ، لامتنع القياس عليه .

                الثاني : أن يكون مجمعا على تعليله - قاله أبو الخطاب - إذ بتقدير أن يكون مختلفا في تعليله ، فللخصم التزامه التعبد فيه ، فيبطل القياس .

                قلت : وهذا موضع تفصيل وهو أن يقال : إن كان المستدل مناظرا ، أو خصمه منتميا إلى مذهب ذي مذهب ; كفاه موافقة الخصم على التعليل ، ولم يعتبر الإجماع عليه من الأمة ، وإن كان الخصم مجتهدا ، اعتبر الإجماع على تعليله ، إذ المجتهد لا حجر عليه إلا بإجماع الأمة ، إذ بدونه له أن يلزم التعبد [ ص: 406 ] في الأصل ، ويفسد كل علة علل بها . أما إذا أجمع على كونه معللا ، لم يمكنه ذلك لمخالفة الإجماع ، وإن كان المستدل ناظرا لا مناظرا ، اعتبر الإجماع على التعليل أيضا ، لأن غرضه ليس إفحام خصم ، بل استخراج حكم ، وذلك إنما يحصل بحصول غلبة الظن بأن العلة هذا الوصف ، ولا يحصل ذلك مع وقوع الخلاف في تعليل الحكم ، وفي هذا شيء لا يخفى .

                الثالث : أن يكون سبره حاصرا لجميع العلل ، إذ لو لم يكن حاصرا; لجاز أن يبقى وصف هو العلة في نفس الأمر لم يذكره ، فيقع الخطأ في القياس ، ولا يصح السبر . وقد أشير إلى الأمرين الآخرين بقوله : " فإن لم يجمع على تعليله; جاز ثبوته تعبدا " " وكذا إن لم يكن سبره حاصرا " .

                واعلم أن دلالة السبر قاطعة إن كان حصر الأقسام وإبطال ما عدا الواحد منها قاطعا ، وإن كانا ظنيين ، أو أحدهما ، كانت دلالته ظنية .

                قوله : " بموافقة خصمه " إلى آخره . هذا بيان لطريق ثبوت حصر السبر ، وهو من وجهين :

                أحدهما : موافقة الخصم على انحصار العلة فيما ذكره المستدل ، كانحصار علة الربا في الكيل أو الطعم أو القوت ، لأن الخصم إذا سلم انحصار العلة فيما ذكره المستدل واستتم له إبطالها إلا واحدة ، حصل مقصوده .

                الوجه الثاني : أن يعجز الخصم " عن إظهار وصف زائد " على ما ذكره المستدل ، لأنه إذا عجز عن ذلك; فقد سلم الحصر ضرورة ، فحاصل الأمر أن موافقة الخصم على الحصر إما اختيارية بالتسليم ، أو اضطرارية بعجزه عن الزيادة .

                قوله : " فيجب إذن على خصمه تسليم الحصر ، أو إبراز ما عنده لينظر [ ص: 407 ] فيه " أي : إذا ثبت أن سبر المستدل للأوصاف حاصر بموافقة الخصم ، أو عجزه عن الزيادة ، وجب حينئذ على الخصم المعترض إما " تسليم الحصر " فيحصل مقصود المستدل منه ، " أو إبراز ما عنده " يعني إظهار ما عند المعترض من الأوصاف الزائدة على ما ذكره المستدل " لينظر فيه ، فيفسده " ولا يسمع قول المعترض : عندي وصف زائد ، لكني لا أذكره ، لأنه حينئذ إما صادق ، فيكون كاتما لعلم دعت الحاجة إليه ، فيفسق بذلك ، أو كاذب ، فلا يعول على قوله ، ويلزمه الحصر .

                قوله : " ببيان بقاء الحكم مع حذفه ، أو ببيان طرديته " إلى آخره .

                يعني إذا أبرز الخصم المعترض وصفا زائدا على ما ذكره المستدل من الأوصاف ، لزم المستدل أن ينظر في ذلك الوصف ، فيفسده ، ويبين عدم اعتباره ، وله إلى ذلك طريقان :

                أحدهما : أن يبين بقاء الحكم مع حذفه ، أي : عدمه في بعض الصور ، مثل أن يقول الحنبلي أو الشافعي : يصح أمان العبد ، لأنه أمان وجد من عاقل مسلم غير متهم ، فيصح قياسا على الحر ، فيقول الحنفي : لا نسلم أن ما ذكرت هو أوصاف العلة في الأصل فقط ، بل هناك وصف آخر ، وهو الحرية ، وهو مفقود في العبد . وحينئذ لا يصح القياس ، فيقول المستدل : وصف الحرية ملغى بالعبد المأذون له فإن أمانه يصح باتفاق مع عدم الحرية ، فصار وصفا لاغيا لا تأثير له في العلة .

                [ ص: 408 ] الطريق الثاني في إبطال الوصف الزائد : أن يبين كونه وصفا طرديا ، أي : لم يلتفت " الشرع إليه في معهود تصرفه " أي : فيما عهد من تصرفه ، كالطول والقصر والذكورية والأنوثية .

                مثاله : لو قال المستدل : يسري العتق في الأمة قياسا على العبد بجامع الرق ، إذ لا علة غيره عملا بالسبر ، فقال المعترض : الذكورية وصف زائد معتبر في الأصل ، لأن العبد إذا كمل عتقه بالسراية ، حصل منه ما لا يحصل من الأمة من تأهله للحكم والإمامة وأنواع الولايات ، ولا يلزم من ثبوت السراية في الأكمل ثبوته في غيره .

                فيقول المستدل : ما ذكرت من الفرق مناسب ، غير أنا لم نر الشرع اعتبر الذكورية والأنوثية في باب العتق ، فيكون اعتبار ذلك على خلاف معهود تصرفه ، فيكون وصفا طرديا في ظاهر الأمر .

                قوله : " ولا يفسد الوصف بالنقض " إلى آخره . يعني أن المستدل لا يكفيه في إفساد الوصف الذي أبرزه المعترض أن يبين كونه منتقضا ، بل يوجد بدون الحكم ، لأن الوصف المذكور يجوز أن يكون جزء العلة ، أو شرطا لها . وحينئذ لا يكون مستقلا بوجود الحكم لوجوده ، " ولا يلزم من عدم استقلاله " بالحكم " صحة علة المستدل بدونه " لأنه جزء لها وشرط ، والعلة لا تصح بدون جزئها أو شرطها .

                مثال ذلك : لو قال المستدل : علة الربا في البر الكيل ، فعارضه المعترض بالطعم ، فنقضه المستدل بالماء أو غيره مما يطعم ولا ربا فيه ، لم يكفه ذلك في بطلان كون الطعم علة ، لجواز أن يكون جزء علة الربا ، بأن تكون العلة مجموع الكيل والطعم ، أو شرطا فيها فتكون علة الربا الكيل بشرط أن يكون المكيل مطعوما . وحينئذ لا يلزم من بطلان كون الطعم علة مستقلة أن يكون [ ص: 409 ] الكيل علة صحيحة ، لجواز أن يكون الطعم جزءها أو شرطها ، والفرق بين النقض وبين بقاء الحكم مع حذف الوصف حيث كان مبطلا له دون النقض : هو أن بقاء الحكم مع عدم الوصف يدل على أنه غير مؤثر ولا معتبر في الحكم علة ولا جزء علة ، ولا شرطا ، إذ لو اعتبر فيه بأحد هذه الوجوه ، لما وجد بدونه أصلا ، بخلاف وجود الوصف بدون الحكم ، فإنه لا يدل على عدم اعتباره في الحكم بوجه من الوجوه لما ذكرنا ، وإنما ذكرت الفرق بينهما ، لأنه قد يستشكل ، فيظن تناقضا .

                قوله : " ولا بقوله " إلى آخره ، أي : ولا يفسد الوصف الذي أبداه المعترض بقول المستدل : إني " لم أعثر بعد البحث على مناسبة " علتك أيها المستدل ، فيتعارض الكلامان ، ويقف المستدل .

                قوله : " وإذا اتفق خصمان على فساد علة من عداهما ، فإفساد أحدهما علة الآخر دليل على صحة علته عند بعض المتكلمين " إلى آخره .

                معنى هذا الكلام على ظهوره أن الخصمين إذا اتفقا على فساد علة غيرهما في الحكم المتنازع فيه ، ثم أفسد أحدهما علة الآخر ، مثل أن اتفق الحنبلي والشفعوي على أن ما عدا الكيل والطعم علة فاسدة ، ثم نقض الشفعوي علة الكيل بالماء ، إذ هو مكيل ولا ربا فيه ، أو نقض الحنبلي علة الطعم بالماء أيضا ، إذ هو مطعوم ولا ربا فيه على خلاف ، فهل يكون ذلك مصححا لعلة الناقض ؟ فيه قولان :

                أحدهما : وهو قول بعض المتكلمين : نعم ، لأن ما عدا علتيهما ثبت فساده باتفاقهما ، وعلة الخصم ثبت فسادها بإفسادها ، فتعينت العلة الباقية .

                والثاني : لا يكون ذلك دليلا على صحة العلة الباقية ، لأن اتفاقهما على [ ص: 410 ] فساد علة غيرهما لا يقتضي فسادها في نفس الأمر ، بل في اعتقادهما ، وهو لا يؤثر بالنسبة إلى غيرهما ، إذ غيرهما يعتقد فساد علتهما كالمالكي يعتقد فساد التعليل بالكيل والطعم ، ويدعي علة القوت ، فيتعارض اعتقادهما واعتقاده ، وكذلك " كل منهما يعتقد فساد علة غيره من حاضر وغائب " أي : يعتقد فساد ما سوى علته ، فيتعارض اعتقادهما ، فليس أحدهما بأولى من الآخر .

                قلت : القولان يمكن تنزيلهما على حالين ، ويعود النزاع لفظيا ، وذلك بأن يقال : إن اتفاقهما على فساد علة غيرهما ، وإفساد أحدهما علة الآخر ; يدل على صحة علة مناظره جدلا ، لا نظرا واجتهادا ، أي : يدل على صحة علته بالإضافة إلى إفحام خصمه وقطعه في مقام النظر .

                أما بالإضافة إلى إثبات الحكم شرعا في نفس الأمر ، فلا ، لما بينا ، وقد يثبت في ظاهر الحال ما لا يثبت في نفس الأمر وبالعكس ، كحكم الحاكم ينفذ ظاهرا ، ولا يحيل الشيء عن صفته باطنا ، وطلاق المتأول تأويلا يبعد عن الظاهر يدين فيه ، ولا يقبل في الحكم ، والله تعالى أعلم .

                فائدة : اصطلح الأصوليون على قولهم : السبر والتقسيم ، يبدءون بالسبر ، والسبر : الاختبار ، والتقسيم : جعل الشيء أقساما .

                قال القرافي : والأصل أن يقال : التقسيم والسبر ، لأنا نقسم أولا ، فنقول : العلة إما كذا ، أو كذا ، ثم نسبر ، أي : نختبر تلك الأوصاف أيها يصلح علة ، لكن لما كان التقسيم وسيلة السبر الذي هو الاختبار أخر عنه تأخير الوسائل ، [ ص: 411 ] وقدم السبر تقديم المقاصد على عادة العرب في تقديم الأهم فالأهم .

                قلت : ولو حملنا قولهم : السبر والتقسيم على معنى سبر العلة بتقسيم الأوصاف ، لعاد إلى ما قاله ، إذ ذلك يفيد أن التقسيم سبب للسبر .

                واعلم أنا إنما قلنا : إن السبر مفيد لمعرفة العلة بناء على مقدمات :

                إحداهن : أن الأصل في الأحكام التعليل ، فمهما أمكن جعل الحكم معللا ، لا يجعل تعبدا .

                الثانية : أن الأصل في وصف الحكم أن يكون مناسبا ، فمتى أمكن إضافته إلى المناسب ، لا يضاف إلى غيره .

                الثالثة : أنه لا يناسب إلا الوصف الباقي بعد السبر ، فوجب كونه علة بهذه المقدمات ، والأولى والثانية ظاهرتان ، وأما الثالثة ، وهي أنه لا يناسب إلا هذا الوصف ، فدليلها ما سبقت الإشارة إليه في النفي الأصلي من أن الظاهر ممن كان أهلا للنظر له دربة بممارسة الأحكام ، واستخراج أدلتها وعللها ، إذا استفرغ وسعه في طلب الوصف المناسب من غيره ، أنه يحصل له غلبة الظن بمعرفته ، وهي كافية ، إذ الأوصاف التي تناط بها الأحكام إما عقلية : كالعلم والقدرة والرضى والعمدية ، أو محسوسة : كالقتل والقطع والغصب والبيع والنكاح ، أو شرعية : كالطهارة والنجاسة والحل والحرمة ، وإدراك ذلك كله بمداركه - وهي العقل والحس والشرع - سبر على ما ذكرناه .

                فثبت بهذا أن السبر والتقسيم طريق موصل إلى معرفة العلة ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية