الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 395 ] وللجنسية مراتب : فأعمها في الوصف : كونه وصفا ، ثم مناطا ، ثم مصلحة خاصة ، وفي الحكم : كونه حكما ، ثم واجبا ونحوه ، ثم عبادة ، ثم صلاة .

                وتأثير الأخص في الأخص أقوى ، وتأثير الأعم في الأعم يقابله ، والأخص في الأعم ، وعكسه واسطتان .

                وقيل : الملائم : ما ذكر في الغريب ، والغريب : ما لم يظهر تأثيره ، ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع ، نحو : حرمت الخمر لكونها مسكرا ، وترث المبتوتة في مرض الموت معارضة للزوج بنقيض قصده كالقاتل ، إذ لم نر الشرع التفت إلى ذلك في موضع آخر ، بل هو مجرد مناسب، اقترن الحكم به .

                وقصر قوم القياس على المؤثر ، لاحتمال ثبوت الحكم في غيره تعبدا ، أو لوصف ثم لم نعلمه ، أو لهذا الوصف المعين ، فالتعيين به تحكم .

                ورد بأن المتبع الظن وهو حاصل باقتران المناسب ، ولم تشترط الصحابة - رضي الله عنهم - في أقيستهم كون العلة منصوصة ولا إجماعية .

                التالي السابق


                قوله : " وللجنسية مراتب " إلى آخره .

                اعلم أنه لما تقرر أن الوصف مؤثر في الحكم ، والحكم ثابت بالوصف ، ومسمى الوصف والحكم جنس تختلف أنواع مدلوله بالعموم والخصوص ، كاختلاف أنواع مدلول الجسم والحيوان وغيرهما من الأجناس كما تقرر أول الكتاب ، ولهذا اختلف تأثير الوصف في الحكم تارة بالجنس ، [ ص: 396 ] وتارة بالنوع; احتجنا إلى بيان مراتب جنس الوصف والحكم ومعرفة الأخص منها من الأعم ، ليتحقق لنا معرفة أنواع تأثير الأوصاف في الأحكام .

                فأعم مراتب " الوصف كونه وصفا " لأنه أعم من أن يكون مناطا للحكم ، أو لا يكون ، إذ بتقدير أن يكون طرديا غير مناسب لا يصلح أن يناط به حكم ، فكل مناط وصف ، وليس كل وصف مناطا ، " ثم " كونه " مناطا " لأنه أعم من أن يكون مصلحة أو لا ، فكل مصلحة مناط للحكم ، وليس كل مناط مصلحة; لجواز أن يناط الحكم بوصف تعبدي ، لا يظهر وجه المصلحة فيه ، وكلامنا في المصلحة في ظاهر الأمر ، أما في نفس الأمر ، فلا يخلو تصرف الشرع عن مصلحة . " ثم " كون الوصف " مصلحة " لأنها قد تكون مصلحة عامة ، بمعنى أنها متضمنة لمطلق النفع ، وقد تكون " خاصة " بمعنى كونها من باب الضرورات والحاجات أو التكملات والتتمات ، كما سبق تقريره في الاستصلاح .

                وأما الحكم ، فأعم مراتبه " كونه حكما " لأنه أعم من أن يكون وجوبا أو تحريما أو صحة أو فسادا . " ثم " كونه " واجبا ونحوه " أي : من الأحكام الخمسة ، وهي الواجب والحرام والمكروه والمندوب والمباح ، وما يلحق بذلك من الأحكام الوضعية كما سبق ، إذ الواجب أعم من أن يكون عبادة اصطلاحية أو غيرها . " ثم " كونه " عبادة " لأنها أعم من الصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات ، " ثم " كونه " صلاة " إذ كل صلاة عبادة ، وليس كل عبادة صلاة .

                [ ص: 397 ] قال القرافي : أعم أجناس الحكم كونه حكما ، وأخص منه كونه طلبا أو تخييرا ، وأخص منه كونه تحريما أو إيجابا ، وأخص منه كونه تحريم الخمر أو إيجاب الصلاة ، وأعم أحوال الوصف كونه وصفا ، وأخص منه كونه مناسبا ، وأخص من المناسب كونه معتبرا ، وأخص منه كونه مشقة أو مصلحة أو مفسدة خاصة ، ثم أخص من ذلك كون تلك المفسدة في محل الضرورات أو الحاجات أو التتمات . قال : فبهذا الطريق تظهر الأجناس العالية والمتوسطة ، والأنواع السافلة للأحكام والأوصاف من المناسب وغيره ، فالإسكار نوع من المفسدة ، والمفسدة جنس له ، والأخوة نوع من الأوصاف ، والتقديم في الميراث نوع من الأحكام ، فهي تأثير نوع في نوع .

                قلت : هذا الذي ذكره في تقسيم مراتب الحكم والوصف أحسن مما في " المختصر " وإن كان المقصود واحدا ، والمعنى متقاربا .

                قوله : " وتأثير الأخص في الأخص " إلى آخره ، أي : لما عرف بما ذكرناه الأخص والأعم من الأوصاف والأحكام; فليعلم أن تأثير بعضها في بعض يتفاوت في القوة والضعف ، فتأثير " الأخص في الأخص أقوى " أنواع التأثير ، كمشقة التكرار في سقوط الصلاة ، والصغر في ولاية النكاح ، " وتأثير الأعم في الأعم " يقابل ذلك ، فهو أضعف أنواع التأثير ، وتأثير " الأخص في الأعم وعكسه " وهو تأثير الأعم في الأخص " واسطتان " بين ذينك الطرفين ، إذ في كل واحد منهما قوة من جهة الأخصية ، وضعف من جهة الأعمية ، [ ص: 398 ] بخلاف الطرفين ، إذ الأول تمحضت فيه الأخصية ، فتمحضت له القوة ، والثاني تمحضت فيه الأعمية ، فتمحض له الضعف . وأشرت بعبارة " المختصر " إلى قول الشيخ أبي محمد في هذا المكان . فما ظهر تأثيره في الصلاة الواجبة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة ، وما ظهر في العبادة أخص مما ظهر في الواجب ، وما ظهر في الواجب أخص مما ظهر في الحكم .

                قلت : لأن التأثير في الأخص أقوى من تحصيل ظن حصول الحكم المطلوب .

                قوله : " وقيل : الملائم ما ذكر في الغريب " إلى آخره .

                هذا قول آخر في الملائم ، وهو أنه " ما ذكر في الغريب " وهو ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم ، لأن الالتفات إليه معروف من الشارع ، فيكون ملائما لتصرفه .

                أما " الغريب " ; فهو : " ما لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع ، نحو " قولنا : " حرمت الخمر ، لكونها مسكرا " فيلحق به كل مسكر ، بتقدير أن لا يرد في ذلك نص ، ولا إجماع ، وترث المبتوتة في مرض الموت معارضة للزوج بنقيض قصده ، كالقاتل " موروثه ، لأنا " لم نر الشرع التفت إلى " مثل " ذلك في موضع آخر " يشهد له بالاعتبار ، " بل هو مجرد مناسب " أي : مناسب مجرد عن الشهادة له بالاعتبار . " اقترن الحكم به " ومجرد الاقتران لا يكفي في ثبوت العلية .



                قلت : الذي تضمنه " المختصر " وأصله : أن الوصف المناسب ثلاثة أنواع : مؤثر وملائم وغريب . وفي جميعها خلاف .

                [ ص: 399 ] أما المؤثر ، ففيه قولان :

                أحدهما : أنه ما ظهر تأثير عينه في عين الحكم أو في جنسه بنص أو إجماع .

                الثاني : أن المؤثر هذان القسمان ، والقسم الثالث وهو ما ظهر تأثير جنسه في عين الحكم . وهذا معنى قوله : " وما سواه مؤثر " .

                وأما الملائم ، ففيه أيضا قولان :

                أحدهما : أنه ما ظهر تأثير جنسه في عين الحكم .

                الثاني : أنه ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم ، وهو معنى قوله : " وقيل : الملائم ما ذكر في الغريب " .

                وأما الغريب ، ففيه قولان أيضا :

                أحدهما : أنه ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم .

                والثاني : أنه ما لم يظهر تأثيره ، ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع . وذكر البروي في " المقترح " أن المؤثر ما دل النص أو الإجماع على اعتبار عينه في عين الحكم ، والملائم هو الأقسام الثلاثة الأخر .

                وقال الشيخ رشيد الدين الحواري : العلل خمس ، وذكر ستا : المؤثر ، والملائم ، والغريب ، والشبه ، والمخيل ، والمصلحة المرسلة ، فلعله ذكرها سادسة بالنسبة إلى من يقول بها ، كمالك - رحمه الله تعالى - . ثم ذكر أن المؤثر [ ص: 400 ] ما عرف كونه علة بنص أو إجماع . قال : وعند الفقهاء ببخارى ومرو وهو ما كان مناسبا . قال : وفي اصطلاحنا ما عرف تأثير عين العلة في عين الحكم ، والملائم ما عرف تأثير نوعه في نوع الحكم ، كتأثير نوع الجناية في نوع العقوبة ، والغريب ما أثر جنسه في جنس الحكم .

                قلت : وهذا كله اختلاف اصطلاحي بدليل ما حكى الحواري من اختلاف الأصوليين والفقهاء المروزيين وبينه من الخلاف في المؤثر ، وكذلك أمثلة أنواع التأثير ، وربما كان بعضها مطابقا ، وربما كان غير مطابق .

                والتحقيق في هذا الباب أنك إذا عرفت مراتب الأوصاف والأحكام في العموم والخصوص ، وأن الخصوص جهة قوة والعموم ضعف كما تقدم تحقيقه . فانظر في مراتب التأثير الواقعة لك ، فإن أقواها من أضعفها بعد ذلك لا يخفى عليك ، وسم أنواعها ما شئت ، ولا ترتبط بتسمية غيرك ولا تمثيله ، وإنما ذكرنا تسميتهم تعريفا لاصطلاحهم وبعض أمثلتهم التي ضربوها لأنواع التأثير ثابتا للناظر ، والأمر أضبط من ذلك .

                فائدة : قد سبق أن المناسب المصلحي إما أن يعلم من الشارع اعتباره ، أو إلغاؤه ، أو لا يعلم منه واحد منهما ، والمنقسم إلى المؤثر والملائم والغريب ، هو الأول ، وهو المناسب الذي علم اعتباره دون الآخرين إلا المناسب المرسل عند مالك .

                وإذا عرف هذا فبعض الأصوليين يطلق القول بأن المؤثر ما ظهر تأثير عينه في عين الحكم ، وبعضهم يشترط مع تأثير العين في العين تأثير الجنس في الجنس ، وما سوى ذلك وهو ما أثر عينه في عين الحكم فقط ، أو جنسه في جنسه فقط; فهو مناسب غريب .

                [ ص: 401 ] مثال الأول : قولنا في القتل بالمثقل : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص كالقتل بالمحدد ، فقد ظهر تأثير عين القتل في عين القصاص ، وتأثير جنس الجناية في جنس العقوبة ، فالجناية جنس للقتل ، والعقوبة جنس للقصاص ، وكذلك قولنا في أن البيع بشرط الخيار ينقل الملك : بيع صدر من أهله ، وصادف محله ، فنقل الملك قياسا على ما إذا لم يشرط ، فقد ظهر تأثير البيع الصادر من الأهل في المحل في نقل الملك ، وهو تأثير عين الوصف في عين الحكم ، وكذلك تأثير جنس البيع ، وهو التصرف ، ظهر في جنس نقل الملك ، وهو تحصيل الغرض ، فالتصرف جنس للبيع ، وحصول الغرض جنس للملك .

                ومثال ما أثر عينه في عين الحكم ولم يشهد له أصل باعتبار جنسه في جنس الحكم تعليل تحريم الخمر بالإسكار بتقدير أن لم يرد قوله - عليه السلام - : كل مسكر حرام ، فهاهنا إنما أثر عين وصف الإسكار في عين تحريم الخمر ، ولا شاهد له باعتبار جنس الإسكار في جنس التحريم .

                قلت : وهذا يمكن منعه لأن جنس السكر أو الإسكار المفسدة أو سببها ، وجنس التحريم الحكم ، وقد ظهر تأثير جنس المفسدة في جنس الحكم كثيرا جدا كما سبق ، وحينئذ يكون ما اعتبره هؤلاء لازما مما قلناه أولا ، أعني بأن تأثير العين في العين يستلزم تأثير الجنس في الجنس ، بحيث لا يتصور بدونه ، لأن تأثير العين في العين أخص من تأثير الجنس في الجنس ، والأخص يستلزم الأعم ، اللهم إلا أن يكون الوصف الذي أثر عينه في عين الحكم هو جنس الوصف الأعلى أثر في جنس الحكم الأعلى ، فهاهنا تأثيره لا يستلزم تأثير غيره للتعذر ، إذ ليس فوق الجنس الأعلى ما يستلزمه .

                [ ص: 402 ] وجعل الآمدي الوصف المؤثر ما كان معتبرا بنص أو إجماع ، والملائم ما أثر عينه في عين الحكم ، وجنسه في جنس الحكم ، والغريب القسمين الآخرين .

                قلت : وبالجملة متى رأينا الوصف المناسب قد أثر نوعا من التأثير ، وغلب على الظن ثبوت الحكم لأجله ، وجب القول بإضافته إليه وربطه به ، بل نفس ظهور تأثير المناسب نوعا يفيد الظن المذكور ، كمن رأيناه قابل الإحسان بالإحسان ، والإساءة بالإساءة في وقت ما ، ولم يعهد من حاله قبل ذلك شيء مما يرجع إلى المكافأة وعدمها ، غلب على الظن أنه قصد المكافأة حملا لتصرفه على ظاهر الحكمة . وهذا التقدير يقتضي القول بالمناسب المرسل ، وقد سبق الكلام فيه .

                قوله : " وقصر قوم القياس على المؤثر " إلى آخره .

                يعني أنه قد ذهب قوم من الأصوليين إلى أن القياس لا يصح إلا بجامع وصف مؤثر في الأصل ـ وقد علم ما المؤثر ـ وشبهتهم في ذلك أنا لو أجزنا القياس بجامع غير مؤثر كالملائم والغريب ، للزم التحكم والترجيح من غير مرجح وهو باطل .

                وبيان ذلك أنا مثلا لو قسنا النبيذ على الخمر بعلة الإسكار على تقدير عدم ورود النص بالنبيذ لاحتمل أن يكون تحريم الخمر تعبدا غير معلل ، كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ، واحتمل أن يكون تحريمها لوصف آخر مناسب لم يظهر لنا ، واحتمل أن يكون لهذا الوصف المعين وهو الإسكار ، وإذا احتمل المقتضي لتحريمه هذه الأمور ، كان تعيين بعضها لإضافة التعيين إليه تحكما . وأما بطلان التحكم ، فظاهر . وحينئذ يجب قصر القياس على الجامع المؤثر ، لأن تأثيره ثبت بالنص [ ص: 403 ] أو ما دل عليه ، وهو الإجماع ، فلا يتردد بين الاحتمالات ، فالتحكم فيه مأمون .

                قوله : " ورد " إلى آخره . أي : ورد قول هؤلاء المذكورين بوجهين :

                أحدهما : أن اقتران الحكم بالوصف الملائم والغريب يفيد الظن بأنه سببه ومقتضيه ، والظن واجب الاتباع في العمليات ، والمقدمتان ظاهرتان ، فوجب القول باعتبارهما .

                الوجه الثاني : أنا علمنا قطعا من تصرف الصحابة - رضي الله عنهم - في الأقيسة أنهم ربطوا الأحكام بالأوصاف المناسبة ، ولم يشترطوا " كون العلة منصوصة ولا إجماعية " ولو كان ذلك مشترطا ، لما تركوا اعتباره ، وإلا للزم القدح في العصمة النبوية ، إذ كانوا هم كل الأمة حينئذ . فلو تركوا ما هو مشترط في الاجتهاد ، لأجمعوا على الخطأ ، ولزم وقوع الخبر النبوي مخالفا لمخبره ، وهو قدح في العصمة ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية