الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون

أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة ، و " لا " ناهية ، والفعل مجزوم ، وليست نافية حتى يكون الفعل منصوبا في جواب الأمر من قوله اعبدوا ربكم والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة ؛ لأن ضد العبادة عدم العبادة . ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساويا لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم .

والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب ، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئا أي معاديا ، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند . وليس بمتعين لجواز كونه اسما جامدا ، وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفا عند العرب ، شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة .

ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعا ، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب . ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة ، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة . ويقال جعل له ندا ، إذا سوى غيره به .

والمعنى : لا تثبتوا لله أندادا تجعلونها جعلا وهي ليست أندادا ؛ وسماها أندادا تعريضا بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون : إن الآلهة شفعاء ، ويقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، لكنهم لما عبدوها ، ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله ، أصبح عملهم [ ص: 335 ] عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول . وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال .

وقوله وأنتم تعلمون جملة حالية ، ومفعول تعلمون متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم ، والمعنى : وأنتم ذووا علم . والمراد بالعلم هنا العقل التام ، وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة ، فإنه أثبت لهم علما ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ، ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفى ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخا لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم . وهذا منزع تهذيبي عظيم : أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه ، ويأتي بما يدل على نقائض فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال .

وقد أومأ قوله وأنتم تعلمون إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا :

إلا شريكا هو لك

.

التالي السابق


الخدمات العلمية