الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 258 ] ذكر أول من هاجر إلى المدينة عقيل وغيره ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمكة : قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين . وهما الحرتان . فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين ، وتجهز أبو بكر مهاجرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ، فقال أبو بكر : وترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال : نعم . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين عنده ورق السمر أربعة أشهر . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال البكائي ، عن ابن إسحاق ، قال : فلما أذن الله لنبيه في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بالأنصار ، فخرجوا أرسالا ، فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد إلى المدينة ، هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة ، وقد كان قدم من الحبشة مكة ، فآذته قريش ، وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا ، فهاجر إلى المدينة .

                                                                                      فعن أم سلمة ، قلت : لما أجمع أبو سلمة الخروج رحل لي بعيره ، ثم حملني وابني عليه ، ثم خرج بي يقودني . فلما رأته رجال بني المغيرة [ ص: 259 ] قاموا إليه ، فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، هذه ، علام نتركك تسير بها في البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده ، فأخذوني منه ، وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة ، فقالوا : والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا . فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده ، وانطلقوا به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، فانطلق زوجي إذ فرقوا بيننا ، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح ، فلا أزال أبكي حتى أمسي ، سنة أو قريبا منها . حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني ، فقال لي : الحقي بزوجك . قالت : ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني . فارتحلت بعيري ، ثم وضعت سلمة في حجري ، وخرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله ، قلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري ، فقال : إلى أين يا ابنة أبي أمية ؟ قلت : أريد زوجي بالمدينة . قال : أو ما معك أحد ؟ قالت : قلت : لا والله إلا الله وبني هذا . قال : والله ما لك من مترك . فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معي يهوي بي ، فوالله ما صحبت رجلا من العرب ، أرى أنه أكرم منه ، كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحط عنه ، ثم قيده في الشجر ، ثم تنحى إلى الشجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله ، ثم استأخر عني وقال : اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه ، فقادني حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء ، قال : زوجك في هذه القرية ، ثم انصرف راجعا .

                                                                                      ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة : عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب مع امرأته ، ثم عبد الله بن جحش حليف بني أمية ، مع [ ص: 260 ] امرأته وأخيه أبي أحمد ، وكان أبو أحمد ضرير البصر ، وكان يمشي بمكة بغير قائد ، وكان شاعرا ، وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب ، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب ، فنزل هؤلاء بقباء على مبشر بن عبد المنذر .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : فلما اشتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة ، فخرجوا رسلا رسلا ، فخرج منهم قبل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو سلمة وامرأته ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن مظعون ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن الشريد ، وعمار بن ياسر . ثم خرج عمر وعياش بن أبي ربيعة وجماعة ، فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عياشا ، وهو أخوهم لأمهم ، فقدموا المدينة فذكروا له حزن أمه ، وأنها حلفت لا يظلها سقف ، وكان بها برا ، فرق لها وصدقهم ، فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة ، فلم يزل بها إلى قبل الفتح .

                                                                                      قلت : وهو الذي كان يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت : اللهم أنج سلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة . . الحديث .

                                                                                      قال ابن شهاب : وخرج عبد الرحمن بن عوف ، فنزل على سعد بن الربيع ، وخرج عثمان ، والزبير ، وطلحة بن عبيد الله ، وطائفة ، ومكث ناس من الصحابة بمكة ، حتى قدموا المدينة بعد مقدمه ، منهم : سعد بن أبي وقاص ، على اختلاف فيه .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن أبيه عمر بن الخطاب ، قال : لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن [ ص: 261 ] أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وقلنا : الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار ، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس . فأصبحت عندها أنا وعياش ، وحبس هشام وفتن فافتتن ، وقدمنا المدينة فكنا نقول : ما الله بقابل من هؤلاء توبة ، قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( 53 ) ) [ الزمر ] ، فكتبتها بيدي كتابا ، ثم بعثت بها إلى هشام ، فقال هشام بن العاص : فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها النظر وأصوبه لأفهمها ، فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا ، فرجعت فجلست على بعيري ، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقتل هشام بأجنادين .

                                                                                      وقال عبد العزيز الدراوردي ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قدمنا من مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، فكان يؤمهم سالم ، لأنه كان أكثرهم قرآنا .

                                                                                      وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : أول من قدم علينا مصعب بن عمير ، فقلنا له : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو مكانه وأصحابه على أثري . ثم أتى بعده عمرو بن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر ، ثم عمار بن ياسر ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وبلال ، ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا ، ثم أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه ، فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل . أخرجه مسلم .

                                                                                      [ ص: 262 ] وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وإن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم ، على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه ، فأخبره الله بمكرهم في قوله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ( 30 ) ) [ الأنفال ] الآية ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر تحت الليل قبل الغار بثور ، وعمد علي فرقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يواري عنه العيون .

                                                                                      وكذا قال موسى بن عقبة ، وزاد : فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه ، إلى أن أصبحوا ، فإذا هم بعلي رضي الله عنه ، فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به ، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم ، فركبوا في كل وجه يطلبونه .

                                                                                      وكذا قال ابن إسحاق ، وقال : لما أيقنت قريش أن محمدا قد بويع ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة ، توامروا فيما بينهم فقالوا : الآن ، فأجمعوا في أمر محمد فوالله لكأنه قد كر عليكم بالرجال ، فأثبتوه أو اقتلوه أو أخرجوه .

                                                                                      فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه ، فلما دخلوا الدار اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بت له فقال : أأدخل ؟ قالوا : من أنت قال : أنا رجل من أهل نجد ، سمع بالذي اجتمعتم له ، فأراد أن يحضره معكم ، فعسى أن لا يعدمكم منه نصح ورأي . قالوا : أجل فادخل . فلما دخل قال بعضهم لبعض : قد كان من الأمر ما قد علمتم ، فأجمعوا رأيا في هذا الرجل ، فقال قائل : أرى أن تحبسوه . فقال [ ص: 263 ] النجدي : ما ذا برأي ، والله لئن فعلتم ليخرجن رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه ، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم ، ثم يغلبوكم على ما في أيديكم من أمركم . فقال قائل منهم : بل نخرجه فننفيه ، فإذا غيب عنا وجهه وحديثه ما نبالي أين وقع . قال النجدي : ما ذا برأي ، أما رأيتم حلاوة منطقه ، وحسن حديثه ، وغلبته على من يلقاه ، ولئن فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت معه على رأيه ، ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم . فقال أبو جهل : والله إن لي فيه لرأيا ، ما أراكم وقعتم عليه ، قالوا : وما هو ؟ قال : أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا نهدا نسيبا وسيطا ، ثم تعطوهم شفارا صارمة ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل ، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ، ولم يقووا على حرب قومهم ، وإنما غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم . قال النجدي : لله در هذا الفتى ، هذا الرأي وإلا فلا شيء ، فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة ، فلم يبت موضعه ، بل بيت عليا في مضجعه . رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، عن أبيه .

                                                                                      حدثنا ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . ( ح ) قال ابن إسحاق : وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ، فذكر معنى الحديث ، وزاد فيه : وأذن الله عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه بالمدينة ( الأنفال ) يذكر نعمته عليه [ ص: 264 ] وبلاءه عنده وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك [ الأنفال ] . الآية .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية