الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 23 ] ( قاعدة في الضمائر )

وقد صنف ابن الأنباري في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين ، وفيه مباحث :

الأول للعدول إلى الضمائر أسباب :

منها - وهو أصل وصفها - للاختصار ولهذا قام قوله تعالى : ( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) ( الأحزاب : 35 ) مقام خمسة وعشرين كلمة لو أتى بها مظهرة . وكذا قوله تعالى : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) ( النور : 31 ) نقل ابن عطية عن مكي أنه ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها ، وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا . وقد قيل : في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ، ما بين ضمير وظاهر .

ومنها الفخامة بشأن صاحبه ، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ، كقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ( القدر : 1 ) يعني القرآن ، وقوله : ( فإنه نزله على قلبك ) ( البقرة : 97 ) ومنه ضمير الشأن .

ومنها التحقير كقوله تعالى : ( إنه لكم عدو مبين ) ( البقرة : 168 ) يعني الشيطان . وقوله : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) ( الأعراف : 27 ) . ( إنه ظن أن لن يحور ) ( الانشقاق : 14 ) .

الثاني : الأصل أن يقدم ما يدل عليه الضمير ، بدليل الأكثرية ، وعدم التكليف ، ومن ثم ورد قوله تعالى : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ( البقرة : 282 ) وتقدم المفعول الثاني في قوله : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم ) ( الأنعام : 112 ) فأخر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه .

وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام :

أحدها وهو الأصل أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة ، نحو : ( وعصى آدم ربه فغوى ) ( طه : 121 ) . ( ونادى نوح ابنه ) ( هود : 42 ) .

[ ص: 24 ] ( إذا أخرج يده لم يكد يراها ) ( النور : 40 ) .

وقوله : ( يستمعون القرآن فلما حضروه ) ( الأحقاف : 29 ) .

الثاني : أن يعود على مذكور في سياق الكلام مؤخر في اللفظ مقدم في النية كقوله تعالى : ( فأوجس في نفسه خيفة ) ( طه : 67 ) . وقوله : ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) ( القصص : 78 ) . وقوله : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ( الرحمن : 39 ) .

الثالث : أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن كقوله تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( المائدة : 8 ) فإنه عائد على العدل المفهوم من اعدلوا . وقوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ( الأنعام : 121 ) فالضمير يرجع للأكل لدلالة تأكلوا . وقوله : ( وإذا حضر القسمة ) ( النساء : 8 ) إلى قوله ( فارزقوهم منه ) ( النساء : 8 ) أي المقسوم ، لدلالة القسمة عليه ، ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان ، والأقربون لأنه مذكور وإن كان بعيدا .

الرابع : أن يدل عليه بالالتزام ، كإضمار النفس في قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) ( الواقعة : 83 ) ( كلا إذا بلغت التراقي ) ( القيامة : 26 ) أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم ، والتراقي عليها . وقوله : ( حتى توارت بالحجاب ) ( ص : 22 ) يعني الشمس .

وقيل : بل سبق ما يدل عليها وهو العشي ; لأن العشي ما بين زوال الشمس وغروبها ، والمعنى إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب . وقيل : فاعل توارت ضمير الصافنات . ذكره ابن مالك ، وابن العربي في الفتوحات ، [ ص: 25 ] ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها ، وسنذكره في الثامن .

وكذا قوله : ( فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ) ( العاديات : 4 - 5 ) قيل : الضمير لمكان " الإغارة " بدلالة " والعاديات " عليه ، فهذه الأفعال إنما تكون لمكان .

وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ( القدر : 1 ) أضمر القرآن لأن الإنزال يدل عليه .

وقوله تعالى : ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) ( البقرة : 178 ) فـ " عفي " يستلزم عافيا إذ أغنى ذلك عن ذكره ، وأعيد الهاء من ( إليه ) عليه .

الخامس : أن يدل عليه السياق فيضمر ثقة بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله تعالى : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) ( فاطر : 45 ) وقوله : ( كل من عليها فان ) ( الرحمن : 26 ) .

وجعل ابن مالك الضمير للدنيا ، وقال : وإن لم يتقدم لها ذكر لكن تقدم ذكر بعضها ، والبعض يدل على الكل .

وقوله تعالى : ( مستكبرين به سامرا تهجرون ) ( المؤمنون : 67 ) يعني القرآن ، أو المسجد الحرام . وقوله : ( قال هي راودتني عن نفسي ) ( يوسف : 26 ) .

( ياأبت استأجره ) ( القصص : 26 ) . ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس ) ( النساء : 11 ) الضمير يعود على الميت ، وإن لم يتقدم له ذكر إلا أنه لما قال : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( النساء : 11 ) علم أن ثم ميتا يعود الضمير عليه . وقوله : ( وإذا حضر القسمة ) ( النساء : 8 ) ثم قال : ( فارزقوهم منه ) ( النساء : 8 ) أي من الموروث ، وهذا وجه آخر غير ما سبق .

وقوله : ( وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها ) ( الجاثية : 9 ) ، ولم يقل : " اتخذه " ردا للضمير إلى " شيئا " لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله بل كان إذا سمع [ ص: 26 ] بعض آيات الله استهزأ بجميعها . وقيل : شيئا بمعنى الآية لأن بعض الآيات آية .

وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له ، كقوله : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان ) ( يس : 8 ) فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال ، وأغنى ذكر الأغلال عن ذكرها . ومثله قوله تعالى : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ) ( فاطر : 11 ) أي من عمر غير المعمر فأعيد الضمير على غير المعمر لأن ذكر المعمر يدل عليه لتقابلهما فكان يصاحبه الاستحضار الذهني .

وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم له كقوله تعالى : ( فإن كن نساء ) ( النساء : 11 ) بعد قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( النساء : 11 ) .

وقوله : ( وبعولتهن أحق بردهن ) ( البقرة : 28 ) فإنه عائد على المطلقات مع أن هذا خاص بالرجعى ، وهل يقتضي ذلك تخصيص الأول ؟ فيه خلاف أصولي ، وقوله : ( ولا ينفقونها في سبيل الله ) ( التوبة : 34 ) فإن الفضة بعض المذكور فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع حتى كأنه قال : ( والذين يكنزون ) ( التوبة : 34 ) أصناف ما يكنز .

وقد يعود على اللفظ الأول دون معناه كقوله تعالى : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ) ( فاطر : 11 ) وقد سبق فيه وجه آخر .

وقوله : ( ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ) ( السجدة : 23 ) على أحد الأقوال .

ومما يتخرج عليه : ( وبعولتهن أحق بردهن ) ( البقرة : 228 ) ويستراح من إلزام تخصيص الأول .

وقد يعود على المعنى كقوله في آية الكلالة : ( فإن كانتا اثنتين ) ( النساء : 176 ) ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من كانتا ، قال الأخفش : إنما يثنى [ ص: 27 ] لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع فثنى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى ، كما يعود الضمير جمعا في " من " حملا على معناها . وقال الفارسي : إنما جازت من حيث كان يفيد العدد مجردا من الصغير والكبير .

السادس : ألا يعود على مذكور ، ولا معلوم بالسياق ، أو غيره ، وهو الضمير المجهول الذي يلزمه التفسير بجملة ، أو مفرد ، فالمفرد في نعم ، وبئس ، والجملة ضمير الشأن ، والقصة ، نحو : هو زيد منطلق ، وكقوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) أي الشأن الله أحد . وقوله : ( لكنا هو الله ربي ) ( الكهف : 38 ) . وقوله : ( أنا الله ) ( طه : 14 ) . وقوله : ( فإنها لا تعمى الأبصار ) ( الحج : 46 ) .

وقد يكون مؤنثا إذا كان عائده مؤنثا كقوله تعالى : ( إن هي إلا حياتنا الدنيا ) ( الأنعام : 29 ) وأما قوله تعالى : ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم ) ( طه : 74 ) فذكر الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة لأنها في حكم الفضلة ، إذ المعنى من يأت ربه مجرما يجزه جهنم .

( تنبيه ) ، والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب ، والمتكلم ، والمخاطب ، قال تعالى : ( هذا هو الحق ) ( الأنفال : 32 ) ( كنت أنت الرقيب ) ( المائدة : 17 ) ( إن ترني أنا أقل منك مالا ) ( الكهف : 39 ) ويكون له محل من الإعراب وضمير الشأن لا يكون إلا غائبا ، ويكون مرفوع المحل ومنصوبه قال تعالى : ( قل هو الله أحد ) ( الإخلاص : 1 ) ( وأنه لما قام عبد الله ) ( الجن : 19 ) .

البحث الثالث : قد يعود على لفظ شيء والمراد به الجنس من ذلك الشيء ، كقوله تعالى : ( وأتوا به متشابها ) ( البقرة : 25 ) فإن الضمير في " به " يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا لأن قوله : ( هذا الذي رزقنا من قبل ) مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين . قال الزمخشري : ونظيره ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) ( النساء : 135 ) أي بجنس الفقير والغني لدلالة قوله : ( غنيا أو فقيرا ) على الجنسين ولو رجع إلى المتكلم به لوحده .

[ ص: 28 ] البحث الرابع : قد يذكر شيئان ويعاد الضمير على أحدهما ، ثم الغالب كونه للثاني كقوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ) ( البقرة : 45 ) فأعاد الضمير للصلاة لأنها أقرب ، وقوله : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ) ( يونس : 5 ) والأصل " قدرهما " لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين : قربه من الضمير ، وكونه هو الذي يعلم به الشهور ، ويكون به حسابها .

وقوله : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) ( التوبة : 34 ) أعاد الضمير على الفضة لقربها . ويجوز أن يكون إلى المكنوز وهو يشملها . وقوله : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ( التوبة : 62 ) أراد يرضوهما ، فخص الرسول بالعائد لأنه هو داعي العباد إلى الله ، وحجته عليهم ، والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه ، وذكر الله تعالى في الآية تعظيما ، والمعنى تام بذكر الرسول وحده كما قال تعالى : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) ( النور : 48 ) فذكر الله تعظيما ، والمعنى تام بذكر رسوله . ومثله قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ) ( الأنفال : 20 ) .

وجعل منه ابن الأنباري ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) ( النساء : 112 ) أعاد الضمير للإثم لقربه ، ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها ، بتأويل : ومن يكسب إثما ثم يرم به .

وقال ابن الأنباري : ولم يؤثر الأول بالعائد في القرآن كله إلا في موضع واحد ، وهو قوله تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) ( الجمعة : 11 ) معناه انفضوا إليهما ، فخص التجارة بالعائد لأنها كانت سبب الانفضاض عنه وهو يخطب .

قال : فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد ، وتارة الأول ، فتقول : إن عبدك وجاريتك عاقلة ، وإن عبدك وجاريتك عاقل . قلت : ليس من هذا قوله تعالى : [ ص: 29 ] ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) ( الجمعة : 11 ) . وقوله : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) ( النساء : 118 ) لأن الإخبار عن أحدهما لوجود لفظه ، أو هي لإثبات أحد المذكورين ، فمن جعله نظير هذا فلم يصب إلا أن يدعي أن ( أو ) بمعنى الواو .

وفي هاتين الآيتين لطيفة ، وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة ، وإن كانت أبعد ومؤنثة ، لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله من اللهو ، بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو ، ولأنها أكثر نفعا من اللهو ، أو لأنها كانت أصلا ، واللهو تبعا ، لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية ، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكر .

الخامس : قد يذكر شيئان ، ويعود الضمير جمعا ; لأن الاثنين جمع في المعنى ، كقوله تعالى : ( وكنا لحكمهم شاهدين ) ( الأنبياء : 78 ) يعني حكم سليمان وداود . وقوله : ( أولئك مبرءون مما يقولون ) ( النور : 26 ) فأوقع أولئك وهو جمع على عائشة وصفوان بن المعطل .

البحث السادس : قد يثنى الضمير ، و يعود على أحد المذكورين كقوله تعالى : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ( الرحمن : 22 ) قالوا : وإنما يخرج من أحدهما . وقوله : ( نسيا حوتهما ) ( الكهف : 61 ) وإنما نسيه الفتى .

السابع : قد يجيء الضمير متصلا بشيء وهو لغيره كقوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ( المؤمنون : 12 ) يعني آدم ، ثم قال : ( ثم جعلناه نطفة في قرار ) [ ص: 30 ] ( المؤمنون : 13 ) فهذا لولده لأن آدم لم يخلق من نطفة .

ومنه قوله تعالى : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( المائدة : 101 ) قيل : نزلت في ابن حذافة حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : من أبي ؟ قال : حذافة ، فكان نسبه ، فساءه ذلك ، فنزلت ( لا تسألوا عن أشياء ) ( المائدة : 101 ) وقيل : نزلت في الحج حين قالوا : أفي كل عام مرة ؟ ثم قال : ( وإن تسألوا عنها ) ( المائدة : 101 ) يريد إن تسألوا عن أشياء أخر من أمور دينكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال : ( قد سألها قوم من قبلكم ) ( المائدة : 102 ) أي طلبها والسؤال عنها طلب ، فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة ، بل لأشياء أخر مفهومة من قوله : ( لا تسألوا عن أشياء ) ( المائدة : 101 ) [ ص: 31 ] ويدل على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير عائدا على أشياء مذكورة لتعدى إليها بـ ( عن ) لا بنفسه ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به .

وقوله تعالى : ( هو سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) يتبادر إلى الذهن أن الضمير في قوله : ( هو ) عائد لإبراهيم عليه السلام ; لأنه أقرب المذكورين ، وهو مشكل لا يستقيم لأن الضمير في قوله : ( وفي هذا ) راجع للقرآن ، وهو لم يكن في زمن إبراهيم ولا هو قاله .

والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه يعني ( سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) يعني في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم ، وفي هذا الكتاب الذي أنزل عليكم وهو القرآن .

والمعنى جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وهو سماكم المسلمين من قبل ، وفي هذا الكتاب لتكونوا ، أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة .

وقوله : ( ملة أبيكم إبراهيم ) ( الحج : 78 ) منصوب بتقدير اتبعوا ، لأن هذا الناصب نصبه قوله : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) ( الحج : 78 ) لأن الجهاد من ملة إبراهيم .

وفي سورة " يس " موضعان توهم فيهما كثير من الناس .

أحدهما قوله : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) ( يس : 37 ) فقد يتوهم أن الضمير في " هم " راجع إلى الليل والنهار بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وهو فاسد لوجهين ، أحدهما : أن النهار ليس مظلما ، والثاني : أن كون أقل الجمع اثنان مذهب مرجوح ، إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات ، و ( مظلمون ) داخلو الظلام ، كقولك : " قوم مصبحون " ، و " ممسون " إذا دخلوا في هذه الأشياء .

والثاني قوله تعالى : ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) ( يس : 81 ) يظن بعضهم أن معناه مثل السماوات والأرض ، وهو فاسد لوجهين :

أحدهما : أنهم أنكروا إعادة السماوات والأرض حتى يدل على إنكارهم إعادتهما بابتدائهما ، [ ص: 32 ] وإنما أنكروا إعادة أنفسهم ، فكان الضمير راجعا إليهم ، ليتحقق حصول الجواب لهم والرد عليهم .

الثاني : لتبين المراد في قوله : ( ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ) ( الأحقاف : 33 ) .

فإن قيل : إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم ، فلا دلالة فيه عليهم .

قلنا : المراد بمثلهم " هم " كما في قوله : ( ليس كمثله شيء ) ( الشورى : 11 ) وقولهم : مثلي لا يفعل كذا ، أي أنا ، وبدليل الآية الأخرى .

وقوله : ( والعمل الصالح يرفعه ) ( فاطر : 10 ) قد يتوهم عوده على الله ، وليس كذلك ، وإلا لنصب العمل كما تقول : قام زيد وعمرا يضربه ، وإنما الفاعل في يرفعه عائد إلى العمل والهاء للكلم .

قال الفارسي في التذكرة : الضمير المنصوب في " يرفعه " عائد للكلم ، لأن الكلم جمع كلمة ، قال : كلم كالشجر في أنه قد وصف بالمفرد في قوله : ( من الشجر الأخضر ) ( يس : 80 ) وكذلك وصف الكلم بالطيب ، ولو كان الضمير المنصوب في " يرفعه " عائدا إلى العمل لكان منصوبا في هذا الوجه ، وما جاء التنزيل عليه من نحو . ( والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) ( الإنسان : 31 ) . والضمير المرفوع في " يرفعه " عائد إلى العمل ، فلذلك ارتفع العمل ، ولم يحمل على قوله : " يصعد " ، ويضمر له فعل ناصب ، كما أضمرت لقوله : ( والظالمين ) والمعنى : يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ، ومعنى " يرفع العمل " أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه ، ويثاب [ ص: 33 ] عليه ، وليس كالعمل السيئ الذي يقع معه الإحباط فلا يرفع إلى الله سبحانه .

الثامن : إذا اجتمع ضمائر فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف ، ولهذا لما جوز بعضهم في قوله تعالى : ( أن اقذفيه في التابوت ) إلخ أن الضمير في ( فاقذفيه في اليم ) ( طه : 39 ) للتابوت وما بعده ، وما قبله لموسى عابه الزمخشري ، وجعله تنافرا ، ومخرجا للقرآن عن إعجازه ، فقال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه ، وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم .

فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت ، وكذلك الملقى إلى الساحل .

قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت ; حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر . انتهى ولا مزيد على حسنه .

وقال في قوله : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه ) ( الفتح : 9 ) الضمائر لله عز وجل ، والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ، ومن فرق الضمائر فقد أبعد .

أي فقد قيل : إنها للرسول إلا الأخير ، لكن قد يقتضي المعنى التخالف ، كما في قوله تعالى : ( ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) ( الكهف : 22 ) الهاء والميم في فيهم لأصحاب الكهف ، والهاء والميم في منهم لليهود ، قاله ثعلب ، والمبرد .

وقوله تعالى : ( والذين هم بربهم لا يشركون ) ( المؤمنون : 59 ) بعد قوله : ( إنما سلطانه ) ( النحل : 100 ) .

[ ص: 34 ] وقوله : ( وما بلغوا معشار ما آتيناهم ) ( سبأ : 25 ) .

وقوله : ( وعمروها أكثر مما عمروها ) ( الروم : 9 ) أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل قريش أكثر مما عمرتها قريش .

وقوله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ( التوبة : 40 ) الآية فيها اثنا عشر ضميرا ، خمسة للنبي صلى الله عليه وسلم وله . . . . والثالث ضمير ( في الغار ) لأنه يتعلق باستقرار محذوف ، فيحتمل ضميرا ، والرابع ( صاحبه ) ، والخامس ( لا تحزن ) ، والسادس ( معنا ) ، والسابع في ( عليه ) على قول الأكثر فيما نقله السهيلي ، لأن السكينة على النبي صلى الله عليه وسلم دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شيء ، إذ كان خروجه بأمر الله .

وأما قوله : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله ) ( التوبة : 26 ) فالسكينة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين لأنه خاف على المسلمين ، ولم يخف على نفسه ، فنزلت عليه السكينة من أجلهم لا من أجله .

وأما قوله تعالى : ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) ( يوسف : 42 ) قيل : الضميران عائدان على يوسف ، أي فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه تعالى ، وقيل : يعودان على الفتى الذي ظن يوسف أنه ناج ، فالمعنى أن يوسف قال للناجي : ذكر الملك بأمري .

ورجح ابن السيد هذا لقوله تعالى : ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ) ( يوسف : 45 ) أي بعد حين .

[ ص: 35 ] وفي قراءة ابن عامر بعد " أمه " بالتخفيف ، أي نسيان ، وإلا لم يكن ليذكر تذكر الفتى بعد النسيان ، والذكر على هذا يحتمل وجهين : أن يكون بمعنى التذكير ، ويكون مصدر ذكرته ذكرا ، فالتقدير : فأنساه الشيطان ذكره عند ربه ، فأضاف الذكر إلى الرب ، وهو في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف ، وجاز ذلك لملاءمته بينهما .

وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر كقوله تعالى : ( منها أربعة حرم ) ( التوبة : 36 ) كما عاد الضمير على الاثني عشر ، ثم قال : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ( التوبة : 36 ) لما أعاده على " أربعة " وهو جمع قلة .

وجوز بعضهم عوده على الاثني عشر أيضا ، بل هو الصواب لأنه لا يجوز أن ينهى عن الظلم في الأربعة ، ويبيح الظلم في الثمانية بل ترك الظلم في الكل واجب .

قلت : لكن يجوز التنصيص على أفضلية الحرم ، فإن الظلم قبيح مطلقا ، وفيهن أقبح فالظاهر الأول .

التاسع قد يسد مسد الضمير أمور :

منها الإشارة كما في قوله تعالى : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( الإسراء : 36 ) .

ومنها الألف واللام كقوله تعالى : ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) ( النازعات : 37 إلى 41 ) .

وقوله : ( نجب دعوتك ونتبع الرسل ) ( إبراهيم : 44 ) أي رسلك .

وقوله : ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ( يوسف : 90 ) أصل الكلام " أجره وصبره " ، ولما كان المحسنون جنسا ، و ( من يتق ويصبر ) واحد تحته أغنى عمومه من عود الضمير إليه .

[ ص: 36 ] وقول الكوفيين : الألف واللام عوض من الضمير .

قال ابن مالك : وعليه يحمل قوله : ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) ( ص : 50 ) وزعم أبو علي ، والزمخشري أن الأبواب بدل من المستكن في ( مفتحة ) .

وهذا تكلف فوجب أن تكون " الأبواب " مرتفعة ب ( مفتحة ) المذكور ، أو بمثله مقدرا . وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب فلا حاجة إلى إبدال أيضا .

ومنها الاسم الظاهر ، بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر ، وقد سبق الكلام عليه في أبواب التأكيد .

العاشر : الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور ، ولنا أصل آخر وهو أنه إذا جاء مضاف ومضاف إليه ، وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف لأنه المحدث عنه دون المضاف إليه ، نحو : لقيت غلام زيد فأكرمته ، فالضمير للغلام ومنه قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ( إبراهيم : 34 ) .

وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي الأصل الأول فقالا : إن الضمير في قوله : ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) ( الأنعام : 45 ) يعود على الخنزير دون لحمه لقربه ، وقواه بعض المتأخرين لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه ليس بأصل مطرد ، فقد يعود إلى المضاف إليه كقوله تعالى : ( واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ) ( النحل : 114 ) .

وكذا الصفة فإنها كما في قوله تعالى : ( إني أرى سبع بقرات سمان ) ( يوسف : 43 ) .

وللجمهور أن يقولوا : وكذا عوده للأقرب ليس بمطرد ، فقد يخرج عن الأصل لدليل ، وإذا تعارض الأصلان تساقطا ، ونظر في الترجيح من خارج ، بل قد يقال : عوده إلى ما فيه [ ص: 37 ] العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي : إن الضمير يعود إلى الخنزير لأن اللحم موجود فيه .

وأما قوله تعالى : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) ( الشعراء : 4 ) فأخبر بـ " خاضعين " عن المضاف إليه ، ولو أخبر عن المضاف لقال : خاضعة ، أو خضعا ، أو خواضع ، وإنما حسن ذلك لأن خضوع أصحاب الأعناق بخضوع أعناقهم .

وأما قوله تعالى : ( فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) ( غافر : 37 ) فقد عاد الضمير في قول المحققين للمضاف إليه وهو موسى ، والظن بفرعون ، وكأنه لما رأى نفسه قد غلط في الإقرار بالإلهية من قوله ( إله موسى ) استدرك ذلك بقوله هذا .

الحادي عشر : إذا عطف بـ ( أو ) وجب إفراد الضمير ، نحو : إن جاء زيد أو عمرو فأكرمه ، لأن أو لأحد الشيئين ، فأما قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) ( النساء : 135 ) فقيل : إن " أو " بمعنى الواو ، وقيل : بل المعنى إن " يكن الخصمان " فعاد الضمير على المعنى .

وقيل : للتنويع لا للعطف ، وعكس هذا إذا عطف بالواو وجب تثنية الضمير .

فأما قوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ( التوبة : 62 ) فقد سبق الكلام عليه

التالي السابق


الخدمات العلمية