الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 95 ] ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم

                                                                                      قال الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، أي : يتعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال : فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني الثانية فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ بسم ربك الذي خلق حتى بلغ إلى قوله : ( ما لم يعلم ( 5 ) ) [ العلق ] قالت : فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة ما لي! وأخبرها الخبر وقال : قد خشيت علي . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وكان امرءا تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الخط العربي ، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا قد عمي . فقالت : اسمع من ابن أخيك . فقال : يا ابن أخي [ ص: 96 ] ما ترى ؟ فأخبره ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا حين يخرجك قومك ، قال : أومخرجي هم ؟ قال : نعم ، إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي .

                                                                                      فروى الترمذي ، عن أبي موسى الأنصاري ، عن يونس بن بكير ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة ، فقالت له خديجة : إنه يا رسول الله كان صدقك ، وإنه مات قبل أن تظهر . فقال : " رأيته في المنام عليه ثياب بيض ، ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك " .

                                                                                      وجاء من مراسيل عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت لورقة جنة أو جنتين " .

                                                                                      وقال الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : " وفتر الوحي فترة ، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا ، وغدا مرارا يتردى من شواهق الجبال ، وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك . رواه أحمد في " مسنده " والبخاري وقال هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة ، فهاجر عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين .

                                                                                      [ ص: 97 ] رواه البخاري .

                                                                                      وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ، فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا .

                                                                                      وقال محمد بن أبي عدي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل ، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وستين .

                                                                                      أخبرنا أبو المعالي الأبرقوهي : قال : أخبرنا عبد القوي بن الجباب ، قال : أخبرنا عبد الله بن رفاعة ، قال : أخبرنا علي بن الحسن الخلعي ، قال : أخبرنا أبو محمد بن النحاس ، قال : أخبرنا عبد الله بن الورد ، قال : أخبرنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي ، قال : حدثنا عبد الملك بن هشام ، قال : حدثنا زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق : قال : كانت الأحبار والرهبان وكهان العرب قد تحدثوا بأمر محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه أما أهل الكتاب فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه ، وما كان عهد إليهم أنبياؤهم من شأنه ، وأما الكهان فأتتهم الشياطين بما استرقت من السمع ، وأنها قد حجبت عن استراق السمع ورميت بالشهب . قال الله تعالى : ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ( 9 ) ) [ الجن ] فلما سمعت الجن القرآن [ ص: 98 ] من النبي صلى الله عليه وسلم عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك ، لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس الأمر ، فآمنوا وصدقوا وولوا إلى قومهم منذرين .

                                                                                      حدثني يعقوب بن عتبة أنه بلغه أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف ، فجاءوا إلى عمرو بن أمية وكان أدهى العرب ، فقالوا : ألا ترى ما حدث ؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها وتعرف بها الأنواء هي التي يرمى بها ، فهي والله طي الدنيا وهلاك أهلها ، وإن كانت نجوما غيرها ، وهي ثابتة على حالها ، فهذا أمر أراد الله به هذا الخلق فما هو .

                                                                                      قلت : روى حديث يعقوب بنحوه حصين ، عن الشعبي ، لكن قال : فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي ، وكان قد عمي .

                                                                                      وقد جاء غير حديث بأسانيد واهية أن غير واحد من الكهان أخبره رئيه من الجن بأسجاع ورجز ، فيها ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من هواتف الجان من ذلك أشياء .

                                                                                      وبالإسناد إلى ابن إسحاق ، قال : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه ، قالوا : إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا ، أنا كنا نسمع من يهود ، وكنا أصحاب أوثان ، وهم أهل كتاب ، وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم قالوا : إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا ، وعرفنا ما كان يتوعدونا به ، فبادرناهم إليه ، فآمنا به وكفروا به ، ففي ذلك نزل :

                                                                                      [ ص: 99 ] ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ( 89 ) ) [ البقرة ] الآيات .

                                                                                      حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمود بن لبيد ، عن سلمة بن سلامة بن وقش ، قال : كان لنا جار يهودي ، فخرج يوما حتى وقف على بني عبد الأشهل ، وأنا يومئذ أحدثهم سنا ، فذكر القيامة والحساب والميزان والجنة والنار ، قال ذلك لقوم أصحاب أوثان لا يرون بعثا بعد الموت ، فقالوا له : ويحك يا فلان ، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون! قال : نعم . قالوا : فما آية ذلك ؟ قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد ، وأشار إلى مكة واليمن . قالوا : ومتى نراه ؟ قال : فنظر إلي وأنا حدث فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به ، وكفر به بغيا وحسدا ، فقلنا له : ويحك يا فلان ، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت! قال : بلى ، ولكن ليس به .

                                                                                      حدثني عاصم بن عمر ، عن شيخ من بني قريظة ، قال لي : هل تدري عم كان الإسلام لثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، نفر من إخوة بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتهم ، ثم كانوا سادتهم في الإسلام ؟ قلت : لا والله ، قال : إن رجلا من يهود الشام يقال له ابن التيهان قدم علينا قبل الإسلام بسنين ، فحل بين أظهرنا ، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا فكان إذا قحط عنا المطر يأمرنا بالصدقة ويستسقي لنا ، فوالله ما يبرح من مجلسه حتى نسقى ، قد فعل ذلك غير مرتين ولا ثلاث ، ثم حضرته الوفاة ، فلما [ ص: 100 ] عرف أنه ميت قال : يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير ، إلى أرض البؤس والجوع ؟ قلنا : أنت أعلم . قال : إنما قدمت أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه ، وهذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود ، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه ، فلا يمنعكم ذلك منه . فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحاصر خيبر قال هؤلاء الفتية ، وكانوا شبابا أحداثا : يا بني قريظة ، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن التيهان . قالوا : ليس به ، فنزل هؤلاء وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم .

                                                                                      وبه ، قال ابن إسحاق : وكانت خديجة قد ذكرت لعمها ورقة بن نوفل ، وكان قد قرأ الكتب وتنصر ، ما حدثها ميسرة من قول الراهب وإظلال الملكين ، فقال : لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة ، وقد عرفت أن لهذه الأمة نبيا ينتظر زمانه ، قال : وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول : حتى متى ، وقال :


                                                                                      لججت وكنت في الذكرى لجوجا لهم طالما بعث النشيجا     ووصف من خديجة بعد وصف
                                                                                      فقد طال انتظاري يا خديجا     ببطن المكتين على رجائي
                                                                                      حديثك أن أرى منه خروجا     بما خبرتنا من قول قس
                                                                                      من الرهبان أكره أن يعوجا     بأن محمدا سيسود قوما
                                                                                      ويخصم من يكون له حجيجا     ويظهر في البلاد ضياء نور
                                                                                      يقيم به البرية أن تموجا     فيلقى من يحاربه خسارا
                                                                                      ويلقى من يسالمه فلوجا     فيا ليتني إذا ما كنت ذاكم
                                                                                      شهدت فكنت أولهم ولوجا [ ص: 101 ]     فإن يبقوا وأبق تكن أمور
                                                                                      يضج الكافرون لها ضجيجا

                                                                                      وقال سليمان بن معاذ الضبي ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن بمكة لحجرا كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه الآن " . رواه أبو داود .

                                                                                      وقال يحيى بن أبي كثير : حدثنا أبو سلمة ، قال : سألت جابرا : أي القرآن أنزل أولا ( يا أيها المدثر ( 1 ) ) [ المدثر ] أو ( اقرأ باسم ربك ( 1 ) ) [ العلق ] ؟ فقال : ألا أحدثكم بما حدثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إني جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي ، وعن يميني وشمالي ، فلم أر شيئا ، ثم نظرت إلى السماء ، فإذا هو على عرش في الهواء ، يعني الملك فأخذني رجفة ، فأتيت خديجة ، فأمرتهم فدثروني ، ثم صبوا علي الماء ، فأنزل الله ( يا أيها المدثر ( 1 ) ) ( قم فأنذر ( 2 ) ) [ المدثر ] .

                                                                                      وقال الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، قال : " بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه رعبا ، فرجعت ، فقلت : زملوني فدثروني ، ونزلت : ( يا أيها المدثر ( 1 ) ) إلى قوله : ( والرجز فاهجر ( 5 ) ) [ المدثر ] وهي الأوثان . متفق عليه . وهو نص في أن ( يا أيها المدثر ( 1 ) ) نزلت بعد فترة الوحي الأول ، وهو ( اقرأ باسم ربك ( 1 ) ) فكان الوحي الأول للنبوة والثاني للرسالة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية