الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 356 ] وترجع أدلة الشرع إلى نص ، أو إجماع ، أو استنباط ، وتثبت العلة بكل منها :

                القسم الأول : إثباتها بدليل نقلي ، وهو ضربان :

                صريح في التعليل نحو : كي لا يكون دولة ، لكي لا تأسوا ، ليعلم ، ذلك بأنهم شاقوا الله ، من أجل ذلك كتبنا ، إلا لنعلم ، ليذوق وبال أمره ، إنما نهيتكم من أجل الدافة ، لأمسكتم خشية الإنفاق ، حذر الموت .

                فإن أضيف إلى ما لا يصلح علة ، نحو : لم فعلت ؟ فيقول : لأني أردت ، فهو مجاز ، أما نحو : " إنها رجس " " إنها ليست بنجس " فصريح أيضا عند أبي الخطاب ، وإن لحقته الفاء نحو : فإنه يبعث ملبيا فهو آكد ، وإيماء عند غيره " .

                الثاني : الإيماء وهو أنواع :

                أحدها : ذكر الحكم عقيب الوصف بالفاء ، نحو : قل هو أذى فاعتزلوا ، والسارق والسارقة فاقطعوا ، من بدل دينه فاقتلوه ، من أحيا أرضا ميتة فهي له إذ الفاء للتعقيب ، فتفيد تعقب الحكم الوصف ، وأنه سببه ، إذ السبب : ما يثبت الحكم عقيبه ، ولهذا تفهم السببية مع عدم المناسبة ، نحو : من مس ذكره فليتوضأ ، وكذلك لفظ الراوي نحو : سها فسجد ، وزنى ماعز فرجم . اعتمادا على فهمه وأمانته ، وكونه من أهل اللغة ، واشترط بعضهم المناسبة ، وإلا لفهم من : صلى فأكل ، سببية الصلاة للأكل .

                التالي السابق


                قوله : " وترجع أدلة الشرع " إلى آخره . لما فرغ من بيان أصناف القياس من حيث القطع والظن ، وكان ذلك فيما يتوقف على معرفة العلة في قوتها وضعفها ، والقوة والضعف فيها مستفاد من دليل ثبوتها الشرعي ، [ ص: 357 ] احتجنا إلى بيان أدلة الشرع التي تثبت بها العلة الشرعية .

                وأدلة الشرع ترجع ، أي : تنحصر في النص والإجماع والاستنباط ، لأن النص يعم الكتاب والسنة ، والاستنباط هو أعم من الاستدلال ، فانحصرت أدلة الشرع المعتبرة في ذلك ، والعلة القياسية يصح إثباتها بكل واحد من هذه الأدلة ، وليس المراد أن كل فرد من أفراد العلة يجوز إثباته بكل فرد من أفراد هذه الأدلة ، بل المراد إثبات كل فرد من أفراد العلة بأدلة الشرع المذكورة على البدل ، أي : إذا لم يوجد في النص ما يثبتها ، ففي الإجماع ، فإن لم يوجد ففي الاستنباط ، فمجموع الأدلة في الإثبات مقابل لمجموع العلل ، وقد بان المراد من ذلك .

                " القسم الأول " : يعني من أقسام طرق إثبات العلة :

                الدليل النقلي ، وهو يعم الكتاب والسنة ، " وهو " يعني إثبات العلة أو الدليل النقلي في إثباتها " ضربان " :

                أحدهما : " صريح في التعليل " أي : في بيان كون المذكور علة ، وهو أن يكون اللفظ موضوعا لذلك أو مشهورا فيه في عرف اللغة ، " نحو " قوله - سبحانه وتعالى - : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ الحشر : 7 ] ، أي : إنما جعل مصرفه هذه الجهات لئلا يتداوله الأغنياء قوما بعد قوم ، فيفوت نفعه تلك الجهات المحتاجة إليه ، ولا يقع من الأغنياء موقع ضرورة ، وكقوله - سبحانه وتعالى - : فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم [ آل عمران : 153 ] ، أي : شغل قلوبكم بالغم الأعظم ، لئلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة . وكقوله - سبحانه وتعالى - : [ ص: 358 ] وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول [ البقرة : 143 ] ، أي : ليمتحنهم بالانقياد للانتقال من قبلة إلى قبلة . وكذا قوله - عز وجل - : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك [ سبأ : 21 ] ، أي : ما سلطنا إبليس على الخلق بالإغواء إلا امتحانا لهم بالإيمان ، وإلا فهو لا يستقل بإضلالهم ، كما جاء في الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : بعثت داعيا وليس إلي من الهداية شيء ، وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلال شيء أو كما قال ، وكقوله - عز وجل - : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله [ الأنفال : 12 - 13 ] ، وكذا قوله تعالى : ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله [ الحشر : 3 - 4 ] ، أي : إنما عذبناهم في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار لسبب شقاقهم ، أو لعلة شقاقهم ، وكذا قوله - سبحانه وتعالى - : فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل [ المائدة : 31 - 32 ] ، المشهور أن : من أجل ذلك متعلق بـ " كتبنا " أي : كتبنا على بني إسرائيل القصاص من أجل قتل ابن آدم أخاه ، يعني ذلك هو السبب في شرع القصاص حراسة للدماء ، وقيل : هو متعلق بندامة ابن آدم القاتل ، أي : أصبح من النادمين من أجل قتله ، أو من أجل تركه لم يواره حتى نبهه الغراب على مواراته ، والتعليل صحيح [ ص: 359 ] على التقديرين . وقوله - سبحانه وتعالى - : ( إلا لنعلم ) قد سبق بيانه ، وقوله - عز وجل - : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم إلى قوله : ليذوق وبال أمره [ المائدة : 95 ] ، أي : أوجبنا عليه الفدية عقوبة على فعله ليذوق وبال أمره ، أي : لعلة إذاقته وبال أمره ، ومقابلته على فعله . وقوله - عليه السلام - : إنما نهيتكم يعني عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الدافة وهم قوم وردوا عربا ، فأمرهم أن لا يدخروا لحوم الأضاحي توسعة عليهم . وكذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : إنما جعل الاستئذان من أجل النظر . وقوله - عز وجل - : إذا لأمسكتم خشية الإنفاق [ الإسراء : 100 ] ، وقوله - عز وجل - : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت [ البقرة : 19 ] ، أي : خشية الإنفاق ، وحذر الموت ، لأن هذا من باب المفعول له ، وهو علة الفعل .

                قوله : " فإن أضيف إلى ما لا يصلح علة " إلى آخره . معنى هذا الكلام أن الفعل بحكم الأصل في وضع اللغة أو استعمالها إنما يضاف إلى علته وسببه ، فإن أضيف إلى ما لا يصلح علة ، فهو مجاز ، ويعرف ذلك بقيام الدليل على عدم صلاحيته علة ، مثل أن يقال للفاعل : " لم فعلت ؟ فيقول : لأني أردت " فإن هذا لا يصلح أن يكون علة ، فهو استعمال اللفظ في غير محله ، وإنما قلنا : إن الإرادة ليست علة للفعل وإن كانت هي الموجبة [ ص: 360 ] لوجوده ، أو المصححة له ، لأن المراد بالعلة في الاصطلاح هو المقتضي الخارجي للفعل ، أي : المقتضي له من خارج ، والإرادة ليست معنى خارجا عن الفاعل .

                قوله : " أما نحو : إنها رجس " إلى آخره . هذا ذكر أمثلة اختلف فيها ، هل هي صريح في التعليل أو تنبيه ؟

                منها قوله - عليه السلام - في الروثة لما جيء بها ليستجمر بها : إنها رجس وقوله في الهرة : إنها ليست بنجس وقوله : لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ، إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم . وقوله في المحرم الذي مات : لا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا . وفي الشهداء : زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم [ ص: 361 ] تشخب دما ، فهذا كله " صريح " في التعليل " عند أبي الخطاب " خصوصا فيما لحقته الفاء ، نحو : فإنه يبعث ملبيا ، فإنه يزداد بها تأكدا لدلالتها على أن ما بعدها سبب للحكم قبلها ، وهو " إيماء عند غير " أبي الخطاب .

                قلت : النزاع في هذا لفظي ، لأن أبا الخطاب يعني بكونه صريحا في التعليل كونه تبادر منه إلى الذهن بلا توقف في عرف اللغة ، وغيره يعني بكونه ليس بصريح أن حرف إن ليست موضوعة للتعليل في اللغة . وهذا أقرب إلى التحقيق ، وإنما فهم التعليل منه فهما ظاهرا متبادرا بقرينة سياق الكلام وصيانة له عن الإلغاء ، لأن قوله : إنها من الطوافين عليكم والطوافات إنها ليست بنجس ونحو ذلك; لو قدر استقلاله وعدم تعلقه بما قبله ، لم يكن له فائدة ، فتعين لذلك ارتباطه بما قبله ، ولا معنى له إلا ارتباط العلة بمعلولها ، والسبب بمسببه . فبهذا الطريق يثبت كونه للتعليل لا بوضع اللغة .

                " الثاني " : أي : الضرب الثاني من إثبات العلة بدليل نقلي " الإيماء " : وهو ضرب من الإشارة ، والفرق بينه وبين النص أن النص يدل على العلة بوصفه لها ، والإيماء يدل عليها بطريق الالتزام ، كدلالة نقص الرطب على التفاضل ، أو بطريق من طرق الاستدلال عقلا ، " وهو أنواع " : [ ص: 362 ] " أحدها : ذكر الحكم عقيب الوصف بالفاء ، نحو " قوله - سبحانه وتعالى - : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ البقرة : 222 ] ، وقوله - عز وجل - : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، وقوله - عليه السلام - : من بدل دينه فاقتلوه ، من أحيا أرضا ميتة فهي له . فهذه كلها أحكام ذكرت عقيب أوصاف كاعتزال النساء عقيب المحيض ، وقطع السارق عقيب السرقة ، وقتل المرتد عقيب التبديل ، وملك الأرض بعد الإحياء ، وذلك يفيد في عرف اللغة أن الوصف الذي قبل الحكم علة وسبب لثبوته ، لأن " الفاء " في اللغة " للتعقيب " على ما تقرر في كتب العربية ، " فتفيد تعقب الحكم الوصف " أي : ثبوت الحكم عقيب الوصف ، وأنه - يعني الوصف - سبب الحكم ، لأن " السبب ما يثبت الحكم عقيبه " كما سبق بيانه في خطاب الوضع .

                " ولهذا " أي : ولكون السبب ما يثبت الحكم عقيبه ، أو لكون ما بعد الفاء مسببا لما قبلها في عرف اللغة ، في مثل هذه الصيغ المذكورة ، " تفهم السببية مع عدم المناسبة " أي : يفهم كون الوصف سببا لما بعده مع عدم مناسبته له ، وذلك نحو قوله - عليه السلام - : من مس ذكره فليتوضأ ، من أكل لحم الجزور فليتوضأ ، ونحو ذلك ، إذ لا مناسبة فيه بين الحكم والوصف ، والسببية مفهومة .

                [ ص: 363 ] قوله : " وكذلك لفظ الراوي " أي : في كون ترتيب الحكم على الوصف بالفاء يفيد السببية ، لأنه والشارع جميعا من أهل اللغة ، واقتضاء اللغة واحد ، فلا يفترقان فيه ، وذلك كقول الراوي : سها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد ، وزنى ماعز فرجم ، فرتب السجود على السهو ، والرجم على الزنى ، وكذا قول أنس - رضي الله عنه - : رضخ يهودي رأس جارية ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرضخ رأسه بين حجرين . وقول الآخر : عتقت بريرة تحت عبد ، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأشباه ذلك .

                قوله : " اعتمادا على فهمه " إلى آخره . أي : حكمنا بالسببية في لفظ الراوي اعتمادا على فهمه لها من فعل الشارع ، " وكونه من أهل اللغة " فلا يخفى عليه ما تقتضيه ألفاظها ، فلا يروي لنا صورة إلا وهي تفيد الواقع ، وعلى كونه أمينا على الشريعة ، فلا يروي لنا ما يوقع التدليس فيها ، ولا شك أن اللبس إنما يقع مع رواية جاهل أو خائن ، والراوي إن كان صحابيا ، فالجهل والخيانة منفيان عنه ، وإن كان غير صحابي ، فنحن لا نقبل إلا رواية من انتفت عنه الصفتان ، فحصل الأمان من اللبس .

                [ ص: 364 ] قوله : " واشترط بعضهم المناسبة " إلى آخره . اعلم أن الأصوليين اختلفوا : هل يشترط في استفادة السببية من ترتيب الحكم على الفاء أن يكون السبب مناسبا للحكم ، كمناسبة الزنا للرجم ونحوه أم لا ؟ والكلام فيما قدمناه في ذلك عام فيما إذا كان مناسبا أو غير مناسب وهو الصحيح ، واشترط بعض الأصوليين أن يكون مناسبا ، إذ لو لم تشترط مناسبته ، " لفهم من " قولنا : " صلى " زيد " فأكل " أن الصلاة سبب للأكل ، لكنه باطل في اللغة والعرف ، فوجب أن تكون المناسبة شرطا .

                والجواب : لا نسلم بطلان ذلك في اللغة ولا العرف بدليل أن من قال : أكرم الجهال وأهن العلماء ; نفر من كلامه كل عاقل ، وما ذاك إلا أنهم يفهمون سببية العلم للإهانة والجهل للإكرام ، وهو مما تأباه العقول .

                وقولكم : صلى زيد فأكل ، وأكل ماعز فرجم ، وباع الأعرابي ، فوجب عليه الكفارة ، وقام النبي فسجد ، وأشباه ذلك; حجة عليكم ، لأنكم إنما أنكرتموه بناء على فهم سببية ما ليس بمناسب ، إذ لو لم تفهموا السببية لما أنكرتم هذا الكلام ، وإنما لم يفهم من قول القائل : صلى فأكل ، سببية الصلاة للأكل ، لأنه غير مناسب عقلا ، وليس الكلام في المناسبة العقلية; إنما الكلام في إفادة الكلام السببية لغة ، ونحن نقول به ، إذ لو روي لنا من وجه [ ص: 365 ] صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فأكل ، أو أكل فسجد ، وما شئتم من هذا الباب ، لحكمنا بالسببية فيه بناء على أنه فعل ذلك ، ومتابعته علينا واجبة في الواجبات ، ومندوبة في المندوبات ، ونجعل ذلك من قبيل الأسباب التعبدية ، نحو : من مس ذكره فليتوضأ ، و : من أنزل الماء فليغتسل . وأشباه ذلك .




                الخدمات العلمية