الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل : في عدالة الصحابة

                        اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي ، إنما هو في غير الصحابة ، فأما فيهم فلا ; لأن الأصل فيهم العدالة ، فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم ، حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين ، قال القاضي هو قول السلف ، وجمهور الخلف ، وقال الجويني بالإجماع .

                        ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابا وسنة كقوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس ، وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا ، وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين ، وقوله والسابقون الأولون ، وقوله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله صلى الله عليه وآله وسلم خير القرون قرني ، وقوله في حقهم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وهما في الصحيح ، وقوله أصحابي كالنجوم [ ص: 225 ] على مقال فيه معروف .

                        قال الجويني : ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة ، ولو ثبت التوقف في روايتهم ، لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ، ولما استرسلت على سائر الأعصار .

                        قال الكيا الطبري : وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ، والمخطئ معذور ، بل مأجور ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا .

                        القول الثاني : أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم ، فيبحث عنها ، قال أبو الحسين بن القطان : فوحشي قتل حمزة وله صحبة والوليد شرب الخمر ، فمن ظهر [ ص: 226 ] عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي ; لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة . انتهى .

                        وهذا كلام ساقط جدا فوحشي قتل حمزة ، وهو كافر ، ثم أسلم ، وليس ذلك مما يقدح به ، فالإسلام يجب ما قبله ، بلا خلاف .

                        وأما قوله : والوليد ليس بصحابي ، إلخ ، فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابيا عن صحبته .

                        قال الرازي في المحصول : وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الجاحظ عنه في كتاب الفتيا ، ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا ، أما مجملا : فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها ، وقال : رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض ، وذلك يقتضي توجه القدح ، إما في القادح إن كان كاذبا ، وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا .

                        والجواب مجملا : أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم عن المطاعن ، وإذا كان كذلك ، وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه .

                        القول الثالث : أنهم كلهم عدول قبل الفتن ، لا بعدها فيجب البحث عنهم ، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقا أيا من الطرفين ; لأن الفاسق من الفريقين غير معين ، وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة ، وهذا القول في غاية الضعف ; لاستلزامه إهدار غالب السنة ، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها ، وأيضا فيه أن الباغي من الفريقين غير معين وهو معين بالدليل الصحيح ، وأيضا التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين .

                        القول الرابع : أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليا ، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة .

                        ويجاب عنه : بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك [ ص: 227 ] جراءة على الله وتهاونا بدينه ، وجناب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم ، فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالما ، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون ، عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ، ولا غمسوا فيها أيديهم ، وقد عدلوا تعديلا عاما بالكتاب والسنة ، فوجب علينا البقاء على . . . . ، والتأويل لما يقتضي خلافه .

                        القول الخامس : أن من كان مشتهرا منهم بالصحبة والملازمة ، فهو عدل لا يبحث عن عدالته ، دون من قلت صحبته ، ولم يلازم ، وإن كانت له رواية ، كذا قال الماوردي وهو ضعيف ; لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قليلا ، ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم .

                        قال المزي : إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق .

                        وقال الأبياري وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد : قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية ، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ، ولم يثبت ذلك ، ولله الحمد ، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير ، فإنه لا يصح ، وما يصح فله تأويل صحيح . انتهى .

                        وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة ، علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ، ولم يسمه كان ذلك حجة ، ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية