الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا .

الأظهر أن الواو للحال من ضمير يدخلون الجنة الذي ماصدقه المؤمنون الصالحون ، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم . والاستفهام إنكاري . وانتصب دينا على التمييز .

وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية ، وهو أحسن الكنايات ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وفيه ما كان به الإنسان إنسانا ، وفي القرآن فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني . والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله لنسفعا بالناصية ، ويقولون : أخذ بساقه ، أي تمكن منه ، وكأنه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام .

وفي الحديث الطلاق لمن أخذ بالساق . ويقولون : ألقى إليه القياد ، وألقى إليه الزمام ، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

يقول أنفي لك عان راغم

ويقولون : يدي رهن لفلان . وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته . وقد تقدم ما فيه بيان لهذا عند قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقوله وأوصى بها إبراهيم بنيه .

[ ص: 211 ] وجملة وهو محسن حال قصد منها اتصافه بالإحسان حين إسلامه وجهه لله ، أي خلع الشرك قاصدا الإحسان ، أي راغبا في الإسلام لما رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان . ومعنى واتبع ملة إبراهيم حنيفا أنه اتبع شريعة الإسلام التي هي على أسس ملة إبراهيم . فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام ، ولعلها هي : الإيمان ، والإحسان ، والإسلام . ولك أن تجعل معنى أسلم وجهه لله أنه دخل في الإسلام ، وأن قوله وهو محسن مخلص راغب في الخير ، وأن اتباع ملة إبراهيم عنى به التوحيد . وتقدم أن حنيفا معناه مائلا عن الشرك أو متعبدا . وإذا جعلت معنى قوله وهو محسن أي عامل الصالحات كان قوله واتبع ملة إبراهيم حنيفا بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد .

وقوله واتخذ الله إبراهيم خليلا عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتبع دينه : زيادة تنويه بدين إبراهيم ، فأخبر أن الله اتخذ إبراهيم خليلا . والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه ، مشتق من الخلال ، وهو النواحي المتخللة للمكان فترى الودق يخرج من خلاله وفجرنا خلالهما نهرا . هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل . ويقال : خل وخل بكسر الخاء وضمها ومؤنثه : خلة بضم الخاء ، ولا يقال بكسر الخاء ، قال كعب :


أكرم بها خلة لو أنها صدقت

وجمعها خلائل . وتطلق الخلة - بضم الخاء - على الصحبة الخالصة لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، وجمعها خلال من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال . ومعنى اتخاذ الله إبراهيم خليلا شدة رضا الله عنه ، إذ قد علم كل أحد أن الخلة الحقيقية تستحيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضا ، واستجابة الدعوة ، وذكره بخير ، ونحو ذلك .

وجملة ولله ما في السماوات وما في الأرض إلخ تذييل جعل كالاحتراس ، على أن المراد بالخليل لازم معنى الخلة ، وليست هي كخلة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل . فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة ما في السماوات وما في الأرض . والمحيط : العليم .

التالي السابق


الخدمات العلمية