الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 313 ] وشرط الفرع وجود علة الأصل فيه ظنا إذ هو كالقاطع في الشرعيات ; وشرط قوم تقدم ثبوت الأصل على الفرع ؛ إذ الحكم يحدث بحدوث العلة ، فلو تأخرت عنه لصار المتقدم متأخرا .

                والحق اشتراطه لقياس العلة دون قياس الدلالة لجواز تأخر الدليل عن المدلول كالأثر عن المؤثر ; بخلاف العلة عن المعلول ; أما العلة الشرعية فهي علامة ومعرف ، ومن شرطها أن تكون متعدية فلا عبرة بالقاصرة وهي ما لا توجد في غير محل النص كالثمنية في النقدين ، وهو قول الحنفية ، خلافا للشافعي وأبي الخطاب وأكثر المتكلمين .

                التالي السابق


                قوله : " وشرط الفرع وجود علة الأصل فيه ظنا " إلى آخره .

                اعلم أن الكلام السابق إلى هاهنا هو في الأصل وحكمه ، والكلام هاهنا هو في الفرع نفسه على ترتيب أصل " المختصر " ، وشرطه " وجود علة الأصل فيه " ، وإلا لم يكن فرعا له ؛ لأن تعدي الحكم إليه فرع تعدي العلة لما سبق من أن العلة أصل في الفرع ، ولا يشترط أن يكون وجودها في الفرع مقطوعا به ، بل تكفي فيه غلبة الظن ؛ لأنه كالقطع في الشرعيات فيما يتعلق بترتب الأحكام الشرعية ، بناء على أن المقصود فيها هو القدر المشترك بين الظن والقطع ، فإن اتفق لنا حكم شرعي مقطوع به ، فما زاد عن القدر المشترك فيه تفضل من الله سبحانه علينا ، إذ حصل لنا اليقين في ذلك الحكم ، فصار الظن في الشرعيات كالقطع في العقليات من حيث إن كل واحد منهما يحصل [ ص: 314 ] مقصوده في بابه .

                قوله : " وشرط قوم تقدم ثبوت الأصل على الفرع " ، إلى آخره .

                هذا شرط آخر للفرع اشترطه قوم ، وفيه تحقيق يأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، ومعناه أن شرط الفرع أن يكون حكم الأصل ثابتا قبله ؛ لأن حكم الفرع يحدث بحدوث علة الأصل المتعدية إليه ، فلو تأخر حكم الأصل عن الفرع ، لتأخرت العلة عنه أيضا ؛ لأنها ملازمة للأصل ، ولو تأخر ثبوت العلة عن الفرع ، لصار المتقدم في الثبوت متأخرا وهو محال .

                قال الآمدي : ولأن العلة في الأصل لا تكون إلا بمعنى الباعث ، فلو تأخر الباعث عن حكم الفرع ، لكان ثبوته قبله إما بغير باعث ، أو بباعث آخر ، ويلزم تعليل الحكم بعلتين ، وهو ممتنع ، ولو صح تعليل الحكم بعلتين ، لكن إنما يصح ذلك إذا لم يتقدم بعض العلل لما فيه من تحصيل الحاصل .

                قوله : " والحق اشتراطه لقياس العلة " إلى آخره ، أي : والتحقيق أنه إنما يشترط تقدم ثبوت الأصل على الفرع في قياس العلة " دون قياس الدلالة " ، وسيأتي تحقيقهما إن شاء الله تعالى .

                والفرق بينهما في ذلك أن العلة لا يجوز تأخرها عن المعلول ، لئلا يلزم وجوده بغير علة أو بعلة غير العلة المتأخرة ، والدليل يجوز تأخره عن المدلول ، كالعالم دليل على الصانع القديم ، وهو متأخر عنه ، وكل أثر كالدخان ونحوه متأخر عن مؤثره كالنار ، وهو دليل عليه . وما ذكره الآمدي من [ ص: 315 ] أن العلة لا تكون إلا بمعنى الباعث ممنوع ، بل هي معرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والمعرف أعم من أن يكون باعثا أو غيره ، اللهم إلا أن يقال : بأن العلة باعث بالإضافة إلى الشارع ، معرف بالإضافة إلى المكلفين ، كما قيل : إن العلة البدنية عرض بالإضافة إلى المريض ، دليل بالإضافة إلى الطبيب ، فحينئذ يستقيم ما قال ; وامتناع تعليل الحكم بعلتين ممنوع ، لكن ما ذكره من تحصيل الحاصل لا جواب عنه ، ومن أمثلة ذلك قياس الوضوء في اشتراط النية على التيمم مع تأخر مشروعية التيمم عن الوضوء .



                قوله : " أما العلة الشرعية ، فهي علامة ومعرف " .

                هذا الكلام في العلة ، وهي أحد أركان القياس ، وهي علامة لثبوت الحكم ومعرف له .

                قال البزدوي في " المقترح " : وللعلة أسام في الاصطلاح ، وهي السبب ، والأمارة ، والداعي ، والمستدعي ، والباعث ، والحامل ، والمناط ، والدليل ، والمقتضي ، والموجب ، والمؤثر .

                قلت : أما تسميتها سببا ، فلأنها طريق إلى معرفة الحكم ، وهو يثبت عند وجودها ؛ لأنها إنما المثبت لها الشارع .

                وأما تسميتها أمارة فظاهر ؛ لأن الأمارة - بفتح الهمزة - العلامة ، والعلة الشرعية علامة على ثبوت الحكم . قال الشاعر :


                إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي



                [ ص: 316 ] أي : علامة تسليمي .

                وأما تسميتها داعيا ومستدعيا ، فلأنها تدعو الشارع إلى وضع الحكم عند وجودها ، وتستدعي ذلك لمصلحة المكلف في معاشه ومعاده ، وكذلك هي الباعث له والحامل على ذلك .

                ومعنى كونها مناطا كما سبق بيانه ، وهو أن الحكم يناط بها أي : يعلق . ومعنى كونها دليلا ظاهر ، وهو أنها إذا وجدت في محل ، دلت على ثبوت الحكم المعلق عليها فيه ، كالإسكار في النبيذ ، والكيل في الأرز .

                ومعنى كونها موجبا ومؤثرا هو أنها توجب معرفة ثبوت الحكم ، وتؤثر في معرفته ؛ للقطع بأن الموجب له ، والمؤثر إنما هو الشارع .

                وفرق بعضهم بين الأصل والفرع ، فقال : يجوز أن تكون العلة أمارة في الفرع ، ولا بد أن تكون فيه بمعنى الباعث لوجهين :

                أحدهما : أنه لا فائدة للأمارة سوى تعريفها للحكم ، وهو في الأصل معرف بالنص ، فإن لم يكن في العلة معنى الباعث ، خلت عن فائدة .

                الثاني : أنها مستنبطة من حكم الأصل ، فهي فرع عليه كما سبق ، فلو توقفت معرفته عليها ، لزم الدور .

                والفرق بين الباعث والأمارة المحضة : هو أن الباعث يكون مناسبا لحكمه ، ومقتضيا له على وجه يحصل من اقتضائه إياه مصلحة ; بحيث يصح في عرف العقلاء أن يقال : إنما فعل كذا لكذا ، كقولنا : إنما قتل المرتد لتبديله الدين ، أو تقليل عدد المسلمين ، أو إعانة الكافرين ، وإنما وجب الحد بشرب الخمر لإفساده العقل ، بخلاف الأمارة المحضة كزوال الشمس [ ص: 317 ] وطلوع الهلال ؛ إذ لا يناسب أن يقال : وجبت الصلاة لأن الشمس زالت ، والصوم لأن الهلال ظهر ، وإن صح ذلك في التخاطب العرفي ، لكنه من جهة الاستدلال ، لا من حيث التعليل ، أي : زوال الشمس وطلوع الهلال دليل على وجوب الصلاة والصوم ، لا علة لهما ، وكذلك الأسباب الموجبة للتعبدات كأسباب الحدث للوضوء ، هي أمارات ، لا بواعث لعدم المناسبة ، وربما جاء في هذا كلام فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                قوله : " ومن شرطها " ، أي : ومن شرط العلة " أن تكون متعدية " يعني لمحل النص إلى غيره ، كالإسكار والكيل والوزن والطعم ، " فلا عبرة بالقاصرة ، وهي ما لا توجد في غير محل النص ، كالثمنية في النقدين " ، أي : كونهما أثمان الأشياء في الأصل ، فإن هذا مختص بهما ، قاصر عليهما " وهو " أي : عدم اعتبار العلة القاصرة " قول الحنفية خلافا للشافعي ، وأبي الخطاب ، وأكثر المتكلمين " .

                قال الآمدي : ذهب الشافعي ، وأحمد ، والقاضي أبو بكر ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري ، وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحة العلة القاصرة . وذهب أبو حنيفة ، والكرخي ، وأبو عبد الله البصري إلى إبطالها .

                قلت : والخلاف إنما هو في القاصرة المستنبطة . أما المنصوصة أو المجمع عليها ، فاتفقوا على صحتها ؛ لأنها حكم المعصوم واجتهاده .




                الخدمات العلمية