الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 145 ] وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا .

عطف على جملة من يشفع شفاعة حسنة باعتبار ما قصد من الجملة المعطوفة عليها ، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيئة ، وذلك يتضمن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة ورد الشفاعة السيئة .

وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يدخل على المستشفع إليه بالسلام استئناسا له لقبول الشفاعة ، فالمناسبة في هذا العطف هي أن الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه ، وأن صفة تلقي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة ، وأن أول بوادر اللقاء هو السلام ورده .

فعلم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم .

وفي الحديث : مر رجل فقال رسول الله : ماذا تقولون فيه ؟ قالوا : هذا جدير إن شفع أن يشفع . الحديث حتى إذا قبل المستشفع إليه الشفاعة كان قد طيب خاطر الشفيع ، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة . وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب .

وبهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها ، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها .

وقد دل قوله فحيوا بأحسن منها على الأمر برد السلام ، ووجوب الرد لأن أصل صيغة الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر ، ولذلك اتفق الفقهاء على وجوب رد السلام .

ثم اختلفوا إذا كان المسلم عليهم جماعة هل يجب الرد على كل واحد منهم : فقال مالك : هو واجب على الجماعة وجوب الكفاية فإذا رد واحد من الجماعة أجزأ عنهم ، وورد في ذلك حديث صحيح; على أنه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير رد الجميع غوغاء .

وقال أبو حنيفة : الرد فرض على كل شخص من الجماعة بعينه . ولعل دليله في ذلك القياس .

[ ص: 146 ] ودل قوله وإذا حييتم بتحية على أن ابتداء السلام شيء معروف بينهم ، ودليله قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، وسيأتي في سورة النور .

وأفاد قوله بأحسن منها أو ردوها التخيير بين الحالين ، ويعلم من تقديم قوله بأحسن منها أن ذلك أفضل .

وحيى أصله في اللغة دعا له بالحياة ، ولعله من قبيل النحت من قول القائل : حياك الله ، أي وهب لك طول الحياة . فيقال للملك : حياك الله . ولذلك جاء في دعاء التشهد التحيات لله أي هو مستحقها لا ملوك الناس . وقال النابغة :

يحيون بالريحان يوم السباسب - أي يحيون مع تقديم الريحان في يوم عيد الشعانين وكانت التحية خاصة بالملوك بدعاء حياك الله غالبا ، فلذلك أطلقوا التحية على الملك في قول زهير بن جناب الكلبي :


ولكل ما نال الفتى     قد نلته إلا التحية

يريد أنه بلغ غاية المجد سوى الملك . وهو الذي عناه المعري بقوله :


تحية كسرى في الثناء وتبع     لربعك لا أرضى تحية أربع

.

وهذه الآية من آداب الإسلام : علم الله بها أن يردوا على المسلم بأحسن من سلامه أو بما يماثله ، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء .

وتكون التحية أحسن بزيادة المعنى ، فلذلك قالوا في قوله تعالى فقالوا سلاما قال سلام : إن تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عبر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسي الحدوث المؤذن به نصب المصدر ، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنه من بديع الترجمة .

" ولذلك جاء في تحية الإسلام : السلام عليكم ، وفي ردها وعليكم السلام لأن تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب .

وقال بعض الناس : إن الواو في رد السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المسلم بلغ غاية التحية أن يقول : [ ص: 147 ] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإذا قال الراد وعليكم السلام إلخ ، كان قد ردها بأحسن منها بزيادة الواو ، وهذا وهم .

ومعنى " ردوها " ردوا مثلها ، وهذا كقولهم : عندي درهم ونصفه ، لظهور تعذر رد ذات التحية ، وقوله تعالى إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها فعاد ضمير " وهو " وهاء " يرثها " إلى اللفظين لا إلى الذاتين ، ودل الأمر على وجوب رد السلام ، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام ، فذلك ثابت بالسنة للترغيب فيه . وقد ذكروا أن العرب كانوا لا يقدمون اسم المسلم عليه المجرور بعلى في ابتداء السلام إلا في الرثاء ، في مثل قول عبدة بن الطيب :


عليك سلام الله قيس بن عاصم     ورحمته ما شاء أن يترحما

وفي قول الشماخ :


عليك سلام من أمير وباركت     يد الله في ذاك الأديم الممزق

يرثي عثمان بن عفان أو عمر بن الخطاب . روى أبو داود أن جابر بن سليم سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : عليك السلام يا رسول الله ، فقال له إن عليك السلام تحية الموتى ، قل : السلام عليك .

والتذييل بقوله إن الله كان على كل شيء حسيبا لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة .

والحسيب : العليم وهو صفة مشبهة : من حسب بكسر السين الذي هو من أفعال القلب ، فحول إلى فعل بضم عينه لما أريد به أن العلم وصف ذاتي له ، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد ، ثم ضمن معنى المحصي فعدي إليه بـ " على " . ويجوز كونه من أمثلة المبالغة . قيل : الحسيب هنا بمعنى المحاسب ، كالأكيل والشريب . فعلى كلامهم يكون التذييل وعدا بالجزاء على قدر فضل رد السلام ، أو بالجزاء السيئ على ترك الرد من أصله . وقد أكد وصف الله بحسيب بمؤكدين : حرف " إن " وفعل " كان " الدال على أن ذلك وصف مقرر أزلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية