الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن قدامة

                                                                                      الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين أبو [ ص: 166 ] محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي صاحب " المغني " مولده بجماعيل من عمل نابلس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة في شعبان .

                                                                                      وهاجر مع أهل بيته وأقاربه ، وله عشر سنين ، وحفظ القرآن ، ولزم الاشتغال من صغره ، وكتب الخط المليح ، وكان من بحور العلم وأذكياء العالم . ورحل هو وابن خاله الحافظ عبد الغني في أول سنة إحدى وستين في طلب العلم إلى بغداد فأدركا نحو أربعين يوما من جنازة الشيخ عبد القادر ، فنزلا عنده بالمدرسة ، واشتغلا عليه تلك الأيام ، وسمعا منه ومن هبة الله بن الحسن الدقاق ، وأبي الفتح بن البطي ، وأبي زرعة بن طاهر ، وأحمد بن المقرب وعلي ابن تاج القراء ومعمر بن الفاخر ، وأحمد بن محمد الرحبي ، وحيدرة بن عمر العلوي ، وعبد الواحد بن الحسين البارزي ، وخديجة النهروانية ، ونفيسة البزازة ، وشهدة الكاتبة ، والمبارك بن محمد البادرائي ، ومحمد بن محمد بن السكن ، وأبي شجاع محمد بن الحسين المادرائي ، وأبي حنيفة محمد بن عبيد الله الخطيبي ، ويحيى بن ثابت .

                                                                                      وتلا بحرف نافع على أبي الحسن البطائحي ، وبحرف أبي عمرو على أستاذه أبي الفتح بن المني .

                                                                                      وسمع بدمشق من أبي المكارم بن هلال ، وعدة . وبالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي . وبمكة من المبارك بن الطباخ . وله مشيخة سمعناها .

                                                                                      [ ص: 167 ] حدث عنه البهاء عبد الرحمن والجمال أبو موسى بن الحافظ ، وابن نقطة ، وابن خليل ، والضياء ، وأبو شامة ، وابن النجار ، وابن عبد الدائم ، والجمال بن الصيرفي ، والعز إبراهيم بن عبد الله ، والفخر علي ، والتقي بن الواسطي ، والشمس بن الكمال ، والتاج عبد الخالق ، والعماد بن بدران ، والعز إسماعيل بن الفراء ، والعز أحمد بن العماد ، وأبو الفهم بن النميس ، ويوسف الغسولي ، وزينب بنت الواسطي ، وخلق آخرهم موتا التقي أحمد بن مؤمن يروي عنه بالحضور أحاديث . وكان عالم أهل الشام في زمانه .

                                                                                      قال ابن النجار : كان إمام الحنابلة بجامع دمشق ، وكان ثقة حجة نبيلا ، غزير الفضل ، نزها ، ورعا عابدا ، على قانون السلف ، عليه النور والوقار ، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه .

                                                                                      وقال عمر بن الحاجب : هو إمام الأئمة ومفتي الأمة خصه الله بالفضل الوافر ، والخاطر الماطر ، والعلم الكامل طنت بذكره الأمصار وضنت بمثله الأعصار ، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية . إلى أن قال : وله المؤلفات الغزيرة ، وما أظن الزمان يسمح بمثله ، متواضع ، حسن الاعتقاد ، ذو أناة وحلم ووقار ، مجلسه معمور بالفقهاء والمحدثين ، وكان كثير العبادة ، دائم التهجد ، لم نر مثله ، ولم ير مثل نفسه .

                                                                                      وعمل الشيخ الضياء سيرته في جزئين فقال : كان تام القامة ، أبيض ، مشرق الوجه ، أدعج ، كأن النور يخرج من وجهه لحسنه ، واسع الجبين ، [ ص: 168 ] طويل اللحية قائم الأنف ، مقرون الحاجبين ، صغير الرأس ، لطيف اليدين والقدمين ، نحيف الجسم ، ممتعا بحواسه .

                                                                                      أقام هو والحافظ ببغداد أربع سنين فأتقنا الفقه والحديث والخلاف ، أقاما عند الشيخ عبد القادر خمسين ليلة ومات ، ثم أقاما عند ابن الجوزي ، ثم انتقلا إلى رباط النعال ، واشتغلا على ابن المني . ثم سافر في سنة سبع وستين ومعه الشيخ العماد ، وأقاما سنة .

                                                                                      صنف " المغني " عشر مجلدات و " الكافي " أربعة ، و " المقنع " مجلدا ، و " العمدة " مجيليدا ، و " القنعة " في الغريب مجيليدا و " الروضة " مجلدا ، و " الرقة " مجلدا ، و " التوابين " مجلدا ، و " نسب قريش " مجيليدا ، و " نسب الأنصار " مجلدا ، و " مختصر الهداية " مجيليدا ، و " القدر " جزءا ، [ و ] " مسألة العلو " جزءا ، و " المتحابين " جزءا ، و " الاعتقاد " جزءا ، و " البرهان " جزءا ، و " ذم التأويل " جزءا ، و " فضائل الصحابة " مجيليدا ، و " فضل العشر " جزءا ، [ و ] " عاشوراء " أجزاء ، [ و ] " مشيخته " جزأين ، [ و ] " وصيته " جزء ، [ و ] " مختصر العلل للخلال " مجلدا ، وأشياء .

                                                                                      قال الحافظ الضياء : رأيت أحمد بن حنبل في النوم فألقى علي مسألة ، فقلت : هذه في الخرقي ، فقال : ما قصر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي .

                                                                                      [ ص: 169 ] قال الضياء : كان رحمه الله إماما في التفسير وفي الحديث ومشكلاته ، إماما في الفقه ، بل أوحد زمانه فيه ، إماما في علم الخلاف ، أوحد في الفرائض ، إماما في أصول الفقه ، إماما في النحو والحساب والأنجم السيارة ، والمنازل .

                                                                                      وسمعت داود بن صالح المقرئ ، سمعت ابن المني يقول - وعنده الإمام الموفق - : إذا خرج هذا الفتى من بغداد احتاجت إليه .

                                                                                      وسمعت البهاء عبد الرحمن يقول : كان شيخنا ابن المني يقول للموفق : إن خرجت من بغداد لا يخلف فيها مثلك .

                                                                                      وسمعت محمد بن محمود الأصبهاني يقول : ما رأى أحد مثل الشيخ الموفق .

                                                                                      وسمعت المفتي أبا عبيد الله عثمان بن عبد الرحمن الشافعي يقول عن الموفق : ما رأيت مثله ، كان مؤيدا في فتاويه .

                                                                                      وسمعت المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول : ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق .

                                                                                      وسمعت الحافظ أبا عبد الله اليونيني يقول : أما ما علمته من أحوال شيخنا وسيدنا موفق الدين ، فإنني إلى الآن ما أعتقد أن شخصا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه ; فإنه كان كاملا في صورته ومعناه من حيث الحسن والإحسان والحلم والسؤدد والعلوم المختلفة والأخلاق الجميلة ، رأيت منه ما يعجز عنه كبار [ ص: 170 ] الأولياء ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره فقلت بهذا : إن إلهام الذكر أفضل من الكرامات ، وأفضل الذكر ما يتعدى إلى العباد ، وهو تعليم العلم والسنة ، وأعظم من ذلك وأحسن ما كان جبلة وطبعا ; كالحلم والكرم والعقل والحياء ، وكان الله قد جبله على خلق شريف ، وأفرغ عليه المكارم إفراغا ، وأسبغ عليه النعم ، ولطف به في كل حال .

                                                                                      قال الضياء : كان الموفق لا يناظر أحدا إلا وهو يتبسم .

                                                                                      قلت : بل أكثر من عاينا لا يناظر أحدا إلا وينسم .

                                                                                      وقيل : إن الموفق ناظر ابن فضلان الشافعي الذي كان يضرب به المثل في المناظرة فقطعه .

                                                                                      وبقي الموفق يجلس زمانا بعد الجمعة للمناظرة ، ويجتمع إليه الفقهاء ، وكان يشغل إلى ارتفاع النهار ، ومن بعد الظهر إلى المغرب ، ولا يضجر ، ويسمعون عليه ، وكان يقرئ في النحو ، وكان لا يكاد يراه أحد إلا أحبه . إلى أن قال الضياء : وما علمت أنه أوجع قلب طالب ، وكانت له جارية تؤذيه بخلقها فما يقول لها شيئا ، وأولاده يتضاربون وهو لا يتكلم . وسمعت البهاء يقول : ما رأيت أكثر احتمالا منه .

                                                                                      [ ص: 171 ] قال الضياء : كان حسن الأخلاق لا يكاد يراه أحد إلا متبسما ، يحكي الحكايات ويمزح . وسمعت البهاء يقول : كان الشيخ في القراءة يمازحنا وينبسط . وكلموه مرة في صبيان يشتغلون عليه ، فقال : هم صبيان ولا بد لهم من اللعب ، وأنتم كنتم مثلهم . وكان لا ينافس أهل الدنيا ، ولا يكاد يشكو ، وربما كان أكثر حاجة من غيره ، وكان يؤثر .

                                                                                      وسمعت البهاء يصفه بالشجاعة ، وقال : كان يتقدم إلى العدو وجرح في كفه ، وكان يرامي العدو .

                                                                                      قال الضياء : وكان يصلي بخشوع ، ولا يكاد يصلي سنة الفجر والعشائين إلا في بيته ، وكان يصلي بين العشائين أربعا " بالسجدة " ، و " يس " ، و " الدخان " ، و " تبارك " ، لا يكاد يخل بهن ، ويقوم السحر بسبع وربما رفع صوته ، وكان حسن الصوت .

                                                                                      وسمعت الحافظ اليونيني يقول : لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة بالتشبيه عزمت على سؤال الشيخ الموفق ، وبقيت أشهرا أريد أن أسأله ، فصعدت معه الجبل فلما كنا عند دار ابن محارب قلت : يا سيدي ، وما نطقت بأكثر من سيدي ، فقال لي : التشبيه مستحيل ، فقلت : لم ؟ قال : لأن من شرط التشبيه أن نرى الشيء ، ثم نشبهه ، من الذي رأى الله ثم شبهه لنا ؟

                                                                                      وذكر الضياء حكايات في كراماته .

                                                                                      وقال أبو شامة : كان إماما علما في العلم والعمل ، صنف كتبا [ ص: 172 ] كثيرة ، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه ، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار .

                                                                                      قلت : وهو وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم ! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى ، ولا عجب في ذلك ، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة .

                                                                                      قال الضياء : وجاءه من بنت عمته مريم المجد عيسى ، ومحمد ، ويحيى ، وصفية ، وفاطمة ، وله عقب من المجد . ثم تسرى بجارية ، ثم بأخرى ، ثم تزوج عزية فماتت قبله ، وانتقل إلى رحمة الله يوم السبت يوم الفطر ، ودفن من الغد سنة عشرين وستمائة ، وكان الخلق لا يحصون . توفي بمنزله بالبلد . قال : وكنت فيمن غسله .

                                                                                      أخبرنا عبد الحافظ بن بدران ، أخبرنا ابن قدامة ، قرأت على عبد الله بن أحمد بن النرسي ; أخبركم الحسن بن محمد التككي ، أخبرنا أبو علي بن شاذان ، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر الأدمي ، حدثنا أحمد بن موسى الشطوي حدثنا محمد بن كثير العبدي ، حدثنا عبد الله بن المنهال ، عن سليمان بن قسيم عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا ، ثم صلى خلف [ ص: 173 ] المقام ركعتين ، ثم قال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي . الحديث .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية