الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : فيمن أحدث مقاصير في المساجد .

الثامن : رفع لشيخ الإسلام ابن تيمية سؤال فيمن أحدث مقاصير في المساجد ويخصص بها دون غيره ، أو جعلها له ولغيره ، فهل يجوز ذلك أم لا ، وهل على ولي الأمر منعه ؟ .

أجاب رضي الله عنه : ليس لأحد أن يختص بمكان من المسجد بحيث يمنعه غيره في أوقات العبادات ، فكيف بمن يتخذ مقصورة في المسجد بمنزلة البيت الذي يقيم فيه ويمنع غيره من دخوله ، فإن هذا غير جائز بلا نزاع ، بل { كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن توطن المكان في المسجد كما يوطن البعير } .

قال ولهذا نهى العلماء عن أن يتخذ الرجل مكانا من المسجد لا يصلي إلا فيه ، وجعلوا هذا من الاختصاص المنهى عنه ; لما في ذلك من الفساد ، مثل كون الرجل إذا رأى غيره سبقه إليه في الصلاة أو غيرها أبغضه أو سبه أو عاداه .

والسنة في المسجد أن من سبق إلى بقعة منه لعمل [ ص: 328 ] جائز فهو أحق بها حتى يقوم .

والسنة في الصلاة أن يسد الصف الأول فالأول ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ، قال يسدون الأول فالأول ، ويتراصون في الصف } فمن سبق إلى الصف الأول فهو أحق به ما دام في الصلاة .

ولو سبق إلى سارية فهو أحق بها بذلك إلا أن يكون هناك مصلي يريد أن يصلي إلى السارية فإنه أحق به ، كما قال عمر بن الخطاب : المصلون أحق بالسواري من غيرهم ، وهذا عند الازدحام .

ولو أراد الاعتكاف في المسجد فهو أحق بمعتكفه ما دام معتكفا ، فإن الاعتكاف عبادة مختص بالمسجد .

ولو احتاج أن يجعل له في اعتكافه ما يستره من الناس مثل الحجرة الذي احتجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يعتكف كان ذلك مشروعا ، بل كان السلف ينصبون الخيام في المساجد مدة الاعتكاف للرجال والنساء ، فهذا مشروع .

وكذلك لو أقام الرجل في المسجد مدة إقامة مشروعة ، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لوفد ثقيف أن ينزلوا بالمسجد ليكون أرق لقلوبهم وأقرب إلى دخول الإيمان فيها ، وكما مرض سعد بن معاذ رضي الله عنه في المسجد ليكون أسهل لعيادته وكالمرأة التي كانت تقم المسجد وكان لها حفش فيه ، أي والحفش - كما في المطالع بالحاء المهملة والفاء فشين معجمة - الدرج وجمعه حفاش . وفي الحديث { هلا جلس في حفش أمه أي بيتها } . شبه بيت أمه في صغره به . وقال الشافعي رضي الله عنه : هو البيت القريب السمك . وقال مالك رضي الله عنه : هو الصغير الخرب . وقيل : الحفش شبه القبة ، تجمع فيه المرأة غزلها وسقطها ، كالدرج يصنع من الخوص يشبه به البيت الصغير الحقير . انتهى .

قال شيخ الإسلام : فإذا احتاج أحد هؤلاء إلى سترة كخيمة سعد وحفش المرأة كان جائزا .

فأما أن يتخذ المسجد مسكنا دائما ويتخذه مبيتا ومقيلا ويختص بالحجرة اختصاص أهل الدور بدورهم دائما فهذا يقرب من إخراج هذه البقعة عن حكم المسجد .

ولهذا تنازع الفقهاء الذين يشترطون في الجمعة كأصحاب مالك والشافعي في صحة الجمعة في مثل هذه المقاصير على قولين .

وتنازع من لا يجوز الصلاة في الأرض المغصوبة كإحدى [ ص: 329 ] الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه في صحة هؤلاء مطلقا في الأماكن المتحجرة في المسجد على قولين ، ولم يتنازعوا في أن فاعل ذلك آثم عاص يجب منعه من ذلك بل له أثر نصيب من قوله تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم }

فإن هذه البقاع من المساجد ، فإذا منع من له فيها حق أن يذكر فيها اسم الله بصلاة أو قراءة أو دعاء أو ذكر أو تعلم أو تعليم كان ذلك نوعا مما تناولته الآية .

وكذلك تخريب المساجد ضد عمارتها ، وليست عمارتها المحمودة بمجرد بنيان الحيطان والسقوف ، فإن ذلك يصح من الكافر والفاسق .

وقد قال - تعالى - : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم ، وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } الآية .

وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ; لأن الله يقول : { إنما يعمر مساجد الله } الآية } . قلت : رواه الترمذي كما قال شيخ الإسلام من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقال : حديث حسن غريب ، ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد . وقال الحاكم صحيح الإسناد .

وفي أوسط الطبراني عن أنس مرفوعا { أن عمار بيوت الله هم أهل الله عز وجل } . وفيه عن أبي سعيد مرفوعا { من ألف المسجد ألفه } .

وأخرج الإمام أحمد رضي الله عنه عن أبي هريرة رضوان الله عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن للمساجد أوتادا الملائكة جلساؤهم ، إن غابوا يفتقدوهم ، وإن مرضوا عادوهم ، وإن كانوا في حاجة أعانوهم } .

مطلب : جليس المسجد على ثلاث خصال .

ثم قال : { جليس المسجد على ثلاث خصال : أخ مستفاد ، أو كلمة محكمة ، أو رحمة منتظرة } ورواه الحاكم من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه دون قوله جليس المسجد إلى آخره . وقال : صحيح الإسناد على شرطهما .

[ ص: 330 ] وأخرج الإمام أحمد أيضا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال { : إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد } إلى غير ما ذكرنا من الأحاديث الواردة في هذا الباب .

قال شيخ الإسلام : فبين أن إقامة الجماعة فيها عمارة لها ، وهذا النهي كله لمن يقتصر في الأمكنة المتحجرة على ما يشرع في المسجد من العبادات وغير ذلك ، فأما إذا فعل فيها المحظورات من الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة كمقدمات الفواحش وتناول المنكرات وغير ذلك فلا يستريب مسلم في النهي عن ذلك .

وإن كانت هذه المقاصير مظنة لهذه المحرمات وقد شهر ذلك كان ذلك بلا ريب موجبا لحسم المادة والمنع من أن يكون في المساجد ما نهى الله عنه ورسوله .

وليس هذا من باب الحدود التي تتوقف على البينة والإقرار ، بل هو من باب الصيانة والاحتياط والذرائع كاتقاء مواقف التهم { ولقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رآهما ، وهو مع امرأته صفية إنها صفية بنت حيي ، فقالا سبحان الله يا رسول الله ، فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا } .

وكما بلغ عمر أن رجلا تجالسه الأحداث فنهى عن مجالسته .

وكما نفى ( نصر بن الحجاج ) لما خاف افتتان الناس به .

وكما نهى عن الخلوة بالأجنبية والسفر بها وأمثال ذلك ، فإن الفعل إذا كان مظنة مفسدة ، ولم يكن هناك مصلحة راجحة فإنه ينهى عنه شرعا ، وعلى ولاة الأمور القيام في ذلك بما أمر الله ورسوله ، والنهي عما نهى الله عنه ورسوله ، وتقلع هذه المقاصير ، كما قلع أمثالها في جامع دمشق وجامع الحاكم بمصر وغيرهما ، فإنه كان هناك أمثال هذه المقاصير حتى قلعه من ولاة الأمور من حمده الناس على ذلك ورأوا فعله من أحسن الحسنات وأعظم [ ص: 331 ] القربات بل من الأفعال الواجبات .

وإذا قامت فإنها تصرف في مصالح المسجد ، فإن نفعت في عمارته وإلا بيعت وانتفع المسجد بأثمانها . انتهى والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية