الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 341 ] [ 3 ] - كتاب الطهارة

الفصل الأول

281 - عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) رواه مسلم .

وفي رواية ( لا إله إلا الله والله أكبر تملآن ما بين السماء والأرض ) لم أجد هذه الرواية في الصحيحين ولا في كتاب الحميدي ولا في ( الجامع ) . ولكن ذكرها الدارمي بدل ( سبحان الله والحمد لله ) .

التالي السابق


[ 3 ] كتاب الطهارة

أي : من الحدث والخبث وأصلها النظافة والنزاهة من كل عيب حسي أو معنوي ومنه قوله تعالى ( إنهم أناس يتطهرون ) ولما كانت العبادة نتيجة العلم ، والصلاة أفضل العبادات ، والطهارة من شروطها المتوقف صحتها عليها عقب كتاب العلم بكتاب الطهارة ، واختصت من بين شروطها لكونها غير قابلة للسقوط ، ولكثرة مسائلها المحتاج إليها هنا قال الغزالي : للطهارة مراتب من تطهير الظاهر عن الحدث والخبث ، ثم تطهير الجوارح عن الجرائم ، ثم تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة ، ثم تطهير السر عما سوى الله تعالى .

الفصل الأول

281 - ( وعن أبي مالك الأشعري ) . قال المؤلف : هو مالك ، كعب بن عاصم الأشعري ، كذا قاله البخاري في التاريخ وغيره ، وقال البخاري في رواية عبد الرحمن بن غنم : حدثنا أبو مالك أو أبو عامر بالشك قال ابن المدني : أبو مالك هو الصواب ، روى عنه جماعة ، ومات في خلافة عمر - رضي الله عنه - . ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الطهور ) : بالضم وهو الأصح والأظهر أو بالفتح : قال الشيخ محيي الدين النووي وجمهور أهل اللغة : على أن الطهور والوضوء يضمان إذا أريد بهما المصدر ، ويفتحان إذا أريد بهما ما يتطهر به ، كذا عن ابن الأنباري ، وذهب الخليل والأصمعي ، وأبو حاتم السجستاني ، والأظهري ، وجماعة إلى أنه بالفتح في الاسم والمصدر اهـ . وقال زين العرب : الطهور بالضم ههنا ، وفي غيره من الأحاديث عن جمهور الرواة وحكى سيبويه أنه بالفتح لأن الفعول قد يجيء مصدرا كالولوع والقبول ، فإن جعلته اسما لما يتطهر به كالسعوط فهو على حذف المضاف أي استعماله ومن رواه بالضم فلا إشكال ( شطر الإيمان ) . قال النووي : أصل الشطر النصف ، قيل معنى شطر الإيمان : أن الأجر في الوضوء ينتهي إلى نصف أجر الإيمان ، قلت : وفيه نظر ظاهر ، لأن ثواب الصلاة التي من جملة شروطها الوضوء لا يقال إنه نصف ثواب الإيمان بل جميع الأعمال لا يصلح أن يكون نصفا للإيمان إلا على معتقد فاسد للمعتزلة والخوارج ، حيث جعلوا العمل شطر الإيمان على أنه لا يلزم من كون العمل شطرا أنه يساوي ثوابه ثواب الإيمان ، كيف ويتوقف صحة العمل على الإيمان دون العكس ، فهو أصل في الجملة فلا يكون مساويا للفرع أبدا مع أنه كالعلامة على تحقق الإيمان وقيل : إن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا ، وكذلك الوضوء إلا أن الوضوء لا يصح إلا مع الإيمان فصار لتوقفه عليه في معنى الشطر . قلت : وهذا مبني على أصل الشافعية أنه عبادة مستقلة يحتاج إلى نية وهي لا تصح إلا من أهلها وإلا فعندنا يصح الوضوء من الكافر فالأظهر أنما يقال : إنما كان شطرا له لأنه يحط الكبائر والصغائر والوضوء يختص بالصغائر ، ولا بد من تقييد هذا الوضوء عندنا أيضا بالنية ليصير عبادة مكفرة للسيئة والله أعلم .

وقال زين العرب تبعا لغيره : المراد هنا بالإيمان الصلاة . قال الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم أي : صلاتكم إلى بيت المقدس ، وأطلق الإيمان عليها لأنها أعظم آثاره وأشرف نتائجه وأنوار أسراره وجعلت الطهارة شطرها لأن صحتها باستجماع الشرائط والأركان والطهارة أقوى الشرائط وأظهرها ، فجعلت كأنها لا شرط سواها ، والشرط شرط ما يتوقف عليه المشروط وقيل : المراد بالشطر مطلق الجزء لا النصف الحقيقي . قلت : كقوله تعالى ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ثم إما أن يراد بالإيمان الصلاة فلا إشكال أو يراد به الإيمان المتعارف ، فالجزء محمول على أجزاء كماله ، ولا ينافيه ما جاء في رواية بعبارة النصف ، فإنه قد يكون بمعنى النصف كما قيل في الحديث المشهور : ( علم الفرائض نصف العلم ) وقيل : المراد بالإيمان حقيقته لأن الإيمان طهارة القلب عن الشرك والطهور طهارة الأعضاء من الحدث والخبث ، وحاصله : أن الطهارة نصفان أي : فجنسها نوعان طهارة الظاهر وطهارة الباطن . وقال بعض المحققين : الطهور تزكيه عن العقائد الزائغة والأخلاق الذميمة وهي شطر الإيمان الكامل ، فإنه تخلية وتحلية ، والأظهر والله أعلم أن الإيمان على حقيقته المنبئة عن نفي [ ص: 342 ] الألوهية لغيره تعالى ، وإثبات الربوبية والتوحيد الذاتي له سبحانه ، وهذا المركب هو معنى الكلمة الطيبة التي عليها مبنى الإيمان ، ولذا قال تعالى : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ولا يضرنا إيراد الحديث في كتاب الطهارة فإنه بحسب فهم بعض المصنفين وبما قلنا تظهر المناسبة التامة بين الجملة السابقة واللاحقة في قوله ( والحمد لله ) : أي تلفظه أو تصوره ( تملأ الميزان ) بالتأنيث على تأويل الكلمة أو الجملة وقيل بالتذكير على إرادة اللفظ أو الكلام أو المضاف المقدر أي : لو قدر ثوابه مجسما لملأ أو محمول على أن الأقوال والأعمال والمعاني تتجسد ذواتها في العالم الثاني وقول ابن حجر أي : ثوابها لو جسم أو هي لو جسمت باعتبار ثوابها غير صحيح لظهور عدم الفرق هذا وقد قال بعض المحققين فإن قلت : كيف توزن الأعمال وهي أعراض مستحيلة البقاء ، وكذا الأعراض لا توصف بالثقل والخفة ؟ فالجواب : أن نصوص الشرع تظاهرت على وزن الأفعال وثقل الموازين وخفتها ، وثبت عن ابن عباس أن للميزان لسانا وكفتين إحداهما بالمشرق ، والأخرى بالمغرب ، تكتب حسناته في صحيفة وتوضع في كفة ، وتكتب سيئاته وتوضع في الأخرى فوجب القبول وترك الاعتراض بسبب قصور الفهم وركاكة العقل ، فإن من أطلعه الله على الأسرار وكشف له عجائب الأقدار يرى أن المقيد بعقله ليس له مقدار على أنه ورد وزن الصحائف . وقال الإمام الغزالي : النفس بذاتها مهيئة لأن ينكشف لها حقائق الأمور ، لكن تعلقها بالجسد مانع عن ذلك ، فإذا انكشف الغطاء بالموت يعرف أن أعماله مؤثرة في تقريبه من الله تعالى وإبعاده ، ويعلم مقادير تلك الآثار وأن بعضها أشد تأثيرا من البعض ، والله قادر على أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة مقادير الأعمال بتشكيل حقيقي أو تمثيل خيالي ، فحد الميزان ما يتميز به الزيادة والنقصان ، ومثاله في العالم الحسي مختلف ، كالميزان والقبان للأثقال ، والاضطراب لحركات الأفلاك ، والمسطرة لمقادير الشعر فلتقريبه بأفهام البليد والجليد مثل ما أريد اهـ .

فمخالفته المعتزلة فيه كنظائره إنما نشأت عن تحكيم عقولهم الفاسدة ، ونظرهم إلى الأدلة الواهية الكاسدة ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ) الشك من الراوي . قال النووي : ضبطناهما بالمثناة من فوق قال الطيبي فالأول أي : تملآن ظاهر ، والثاني فيها ضمير الجملة أي : الجملة الشاملة لهما . قلت : ويمكن أن يكون الإفراد بتقدير كل واحدة منهما ( ما بين السماوات والأرض ) : إما باعتبار الثواب أو لأنها مملوءة من الآيات الدالة على وجود الصفات الثبوتية ونفي النعوت السلبية والله أعلم ( والصلاة نور ) أي : في القبر وظلمة القيامة وقيل : إنها تمنع من الفحشاء وتهدي إلى الصواب كالنور ، وقيل أراد بالنور الأمر الذي يهتدي به صاحبه يوم القيامة . قال تعالى : يسعى نورهم بين أيديهم وقيل : لأنها سبب إشراق أنواع العارف وانشراح القلب ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها ، وقيل : النور : السيما في وجه المصلي ، ولا يبعد أن يراد بها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ( والصدقة برهان ) معناه يفزع إليها كما يفزع إلى البرهان فإن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقته براهين في الجواب ، وقيل : يوسم المتصدق بسيماء يعرف بها فيكون برهانا على الفلاح والهدى ، فلا يسأل عن المصرف وقيل : إنها حجة على إيمان صاحبها فإن المنافق يمتنع منها ( والصبر ضياء ) : بالياء المنقلبة عن الواو لكسرة ما قبلها وروي بالهمزة قبل الألف ، قيل : الصبر هو حبس النفس عما تتمنى من الشهوات وعلى ما يشق عليها من العبادات وفيما يصعب عليها من النائبات وقيل : المراد به الصبر عن الدنيا ولذاتها الدنية ، وعن المعاصي ، وعلى التكاليف الشرعية . وفي المصيبات والمحن الكونية فيخرج العبد عن عهدتها فتكون ضياء لأن بترك الصبر عليها يدخل في ظلمة المعاصي ، وقيل : المراد بالصبر هنا الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة والصدقة ، إذ المراد بها الزكاة كما قيل في قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وسمي الصوم صبرا لثبات الصائم وحبسه عن الشهوات ، وسمي شهر رمضان شهر الصبر ، وقيل قوله : ( ضياء ) يعني في ظلمة القبر لأن المؤمن إذا صبر على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا ، وعن المعاصي فيها جازاه الله تعالى بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته : وقال [ ص: 343 ] بعضهم : الصبر ضياء في قلبه لأن الصبر على المكاره في دين الله تذلل ومن تذلل في الله سهل عليه الطاعات ومشاق العبادات وتجنب المحظورات ، ومن كان هذا شعاره لا شك أن في قلبه ضياء والضياء أقوى من النور . قال الله تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وذلك لأن الصبر أوسع من الصلاة ، لأن كل واحدة من الواجبات والمحظورات تحتاج إلى الصبر ، نعم إذا فسر الصوم بالصبر ، فذلك لتخصيصه بالنهار كتخصيص الشمس به ، لا لمزية الصوم على الصلاة أي على قول من يقول : الصوم أفضل من الصلاة لأن الصوم إمساك يشبه الصمدانية ، وهو من صفات الرب والصلاة تذلل وهو من صفات العبد ولقوله عليه الصلاة والسلام : ( الصوم لي وأنا أجزي به ) كذا حققه السيد ( والقرآن ) : أي : قراءته ( حجة لك ) : إن عملت به ( أو عليك ) : إن أعرضت عنه أو قصرت منه بترك العمل بمعانيه ( كل الناس يغدو ) أي يصبح أو يسير ، قيل : الغدو : السير أول النهار ضد الرواح ، وقد غدا يغدو غدوا مأخوذ من الغدوة ما بين الصباح وطلوع الشمس ، والمعنى كل أحد يسعى ويجتهد في الدنيا ويرى أثر عمله في العقبى . قال الطيبي : وهو مجمل تفصيله ( فبائع نفسه ) : أي : حظها بإعطائها وأخذ عوضها وهو عمله وكسبه ، فإن عمل خيرا فقد باعها وأخذ الخير عن ثمنها ( فمعتقها ) من النار بذلك قال الطيبي : الفاء للسببية وهو خبر بعد خبر ، ويجوز أن يكون بدل البعض من قوله : فبائع نفسه ( أو موبقها ) أي : مهلكها بأن باعها وأخذ الشر عن ثمنها . وقال زين العرب تبعا للأشراف وغيره : البيع والشراء يطلق كل واحد منهما على الآخر لارتباطه به ، وعبر بلفظ البيع والشراء عن ترك حالة وكسب أخرى كترك البائع ما في يده إيثارا لما في يد المشتري فمن صرف نفسه عما تتوخاه وآثر آخرته على دنياه واشترى نفسه بالآخرة ، فقد أعتقها عن أليم عقابه ، ومن آثر الدنيا على الآخرة واشتراها بها فقد أوبق نفسه أي : أهلكها بأن جعلها عرضة لعظيم عذابه وقوله : فبائع نفسه أي : فمشتري نفسه من ربه بدليل قوله : فمعتقها . والإعتاق إنما يصح من المشتري ، وحاصله : أن من ترك الدنيا وآثر الآخرة يكون مشتريا نفسه من ربه بالدنيا ، فيكون معتقها ، ومن ترك الآخرة وآثر الدنيا يكون مشتريا بالأخرى فيكون موبقها ، وقيل : المعنى كل واحد منهم يسعى في الأمور ، فمنهم من يبيعها من الله فيعتقها ، ومنهم من يبيعها من الشيطان فيوبقها ( رواه مسلم ) ، ( وفي رواية ) : ظاهرة أنها لمسلم ، ولذا يجيء الاعتراض الآتي ( لا إله إلا الله والله أكبر تملآن ) : التأنيث ، وقيل بالتذكير ( ما بين السماء والأرض ) إما باعتبار الثواب ، وإما باعتبار ظهور الوحدانية والكبرياء والعظمة الربانية . قال صاحب المشكاة ( لم أجد هذه الرواية ) : أي : التي نسبها صاحب المصابيح إلى مسلم ( في الصحيحين ) : أي : متنهما ( لا في كتاب الحميدي ) : الجامع بين الصحيحين ( ولا في الجامع : أي للأصول الستة ( ولكن ذكرها ) : أي : هذه الرواية الدارمي بدل ( سبحان الله والحمد لله ) : وهو ليس بمخلص له لأنه التزم أن يكون جميع ما ذكر في قوله من الصحاح المعبر عنه بالفصل الأول مما أخرجه الشيخان أو أحدهما ، وهذه الرواية ليست في أحدهما ، وقد يجاب بأن الالتزام إنما هو في أصول الأحاديث ، وأما هذه فإنما هي زيادة إفادة متفرعة على أصل الحديث الموجود في مسلم [ ص: 344 ] الله أعلم . قال السيد جمال الدين : وفي تخريج المصابيح للقاضي عبد الله السلمي الشافعي هذه الرواية لم أقف عليها في مسلم ، وإنما رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي مالك الأشعري ، فظاهره يشعر بأن فيه الجمع لا التبديل ، وأما ظاهر رواية الدارمي فالتبديل اهـ .




الخدمات العلمية