الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 138 ] سؤال الرؤية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون [ الأعراف : 142 - 147 ] . قال جماعة من السلف; منهم ابن عباس ، ومسروق ، ومجاهد : الثلاثون ليلة هي; شهر ذي القعدة [ ص: 139 ] بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة . فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه ، وأقام حجته وبراهينه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أن موسى ، عليه السلام ، لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائما ، يقال : إنه لم يستطعم الطعام . فلما كمل الشهر أخذ لحا شجرة فمضغه ، ليطيب ريح فمه ، فأمر الله أن يمسك عشرا أخرى ، فصارت أربعين ليلة . ولهذا ثبت في الحديث أن : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فلما عزم على الذهاب ، استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل ، وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه وأمره ونهاه ، وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة ، قال الله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا أي; في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه ، وكلمه ربه أي; كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، وقربه وأدناه ، وهذا مقام رفيع ، ومعقل منيع ، ومنصب شريف ، ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا والأخرى . ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية ، وسمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار ، القوي البرهان : ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى; لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا ، وأشد ثباتا من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ، ولهذا قال : [ ص: 140 ] ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . وفي " الصحيحين " ، عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : حجابه النور وفي رواية : النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال ابن عباس ، في قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء; ولهذا قال تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال مجاهد : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقا . وقد ذكرنا في " التفسير " ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه ابن جرير ، والحاكم ، من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، زاد ابن جرير ، وليث ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال : هكذا بأصبعه ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى [ ص: 141 ] من الخنصر ، فساخ الجبل . لفظ ابن جرير وقال السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما تجلى - يعني من العظمة - إلا قدر الخنصر ، فجعل الجبل دكا ، قال : ترابا وخر موسى صعقا أي; مغشيا عليه . وقال قتادة : ميتا . والصحيح الأول; لقوله : فلما أفاق فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي . قال : سبحانك تنزيه ، وتعظيم ، وإجلال أن يراه بعظمته أحد . تبت إليك أي : فلست أسأل بعد هذا الرؤية : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت في " الصحيحين " ، من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور لفظ البخاري ، وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري ، حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني من بين الأنبياء وفي [ ص: 142 ] " الصحيحين " ، من طريق الزهري ، عن أبي سلمة ، وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وفيه : لا تخيروني على موسى . وذكر تمامه . وهذا من باب الهضم والتواضع ، أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية ، أو ليس هذا إليكم ، بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وليس ينال هذا بمجرد الرأي ، بل بالتوقيف . ومن قال : إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم . ففي قوله نظر; لأن هذا من رواية أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر متأخرا ، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا . والله أعلم . ولا شك أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أفضل البشر ، بل الخليقة . قال الله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] . وما كملوا إلا بشرف نبيهم ، وثبت بالتواتر عنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون ، حتى أولو العزم الأكملون; نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ابن مريم . وقوله صلى الله عليه وسلم : فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش - أي; آخذا بها - فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة الطور . [ ص: 143 ] دليل على أن هذا الصعق ، الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة ، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده ، فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال ، فيكون أولهم إفاقة محمد ، خاتم الأنبياء ، ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء ، فيجد موسى باطشا بقائمة العرش . قال الصادق المصدوق : لا أدري أصعق ، فأفاق قبلي أي كانت صعقته خفيفة; لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق ، أو جوزي بصعقة الطور ، يعني فلم يصعق بالكلية ، وهذا فيه شرف كبير وعلو مرتبة لموسى ، عليه السلام ، من هذه الحيثية ، ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه; ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة; لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي ، حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر . قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى ، عليه السلام ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه . وقوله تعالى : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي أي في ذلك الزمان ، لا ما قبله; لأن إبراهيم الخليل أفضل منه ، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ، ولا ما بعده; لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهما; كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء ، وكما ثبت أنه قال : سأقوم مقاما يرغب إلي الخلق حتى إبراهيم وقوله تعالى : فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين أي; فخذ ما أعطيتك من الرسالة [ ص: 144 ] والكلام ، ولا تسأل زيادة عليه ، وكن من الشاكرين على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي " الصحيح " أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ عن الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فخذها بقوة أي; بعزم ونية صادقة قوية ، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي ، يضعوها على أحسن وجوهها ، وأجمل محاملها ، سأوريكم دار الفاسقين أي; ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخالفين لأمري ، المكذبين لرسلي . سأصرف عن آياتي أي; عن فهمها ، وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل عليه مقتضاها ، الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها أي; ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق ، والمعجزات ، لا ينقادوا لاتباعها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا أي; لا يسلكوه ، ولا يتبعوه وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا أي; صرفناهم عن ذلك; لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها ، والتفكر في معناها ، وترك العمل بمقتضاها ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية