الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 288 ] 68 - القول الأشبه

            في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد فقد كثر السؤال عن معنى الحديث الذي اشتهر على الألسنة : " من عرف نفسه فقد عرف ربه " وربما فهم منه معنى لا صحة له ، وربما نسب إلى قوم أكابر ، فرقمت في هذه الكراسة ما يبين الحال ويزيل الإشكال ، وفيه مقالات :

            المقال الأول : إن هذا الحديث ليس بصحيح ، وقد سئل عنه النووي في فتاويه فقال : إنه ليس بثابت ، وقال ابن تيمية : موضوع ، وقال الزركشي في الأحاديث المشتهرة : ذكر ابن السمعاني : إنه من كلام يحيى بن معاذ الرازي .

            المقال الثاني في معناه : قال النووي في فتاويه : معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العلى ، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في " لطائف المنن " : سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول : في هذا الحديث تأويلان :

            أحدهما : أي من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقرها عرف الله بعزه وقدرته وغناه ، فتكون معرفة النفس أولا ثم معرفة الله من بعد .

            والثاني : أن من عرف نفسه فقد دل ذلك منه على أنه عرف الله من قبل ، فالأول حال السالكين ، والثاني حال المجذوبين .

            وقال أبو طالب المكي في " قوت القلوب " : معناه إذا عرفت صفات نفسك في معاملة الخلق وأنك تكره الاعتراض عليك في أفعالك وأن يعاب عليك ما تصنعه عرفت منها صفات خالقك ، وأنه يكره ذلك فارض بقضائه وعامله بما تحب أن تعامل به .

            وقال الشيخ عز الدين : قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه وهو أن الله سبحانه وتعالى وضع هذه الروح الروحانية في هذه الجثة الجثمانية لطيفة لاهوتية موضوعة في كثيفة ناسوتية دالة على وحدانيته وربانيته .

            ووجه الاستدلال بذلك من عشرة أوجه :

            الأول : أن هذا الهيكل الإنساني لما كان مفتقرا إلى مدبر ومحرك وهذه الروح مدبرة ومحركة علمنا أن هذا العالم لا بد له من مدبر ومحرك .

            [ ص: 289 ] الوجه الثاني : لما كان مدبر الهيكل واحدا وهو الروح علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره ، ولا جائز أن يكون له شريك في ملكه ، قال الله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وقال تعالى : ( لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ) وقال تعالى : ( وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ) .

            الوجه الثالث : لما كان هذا الجسد لا يتحرك إلا بإرادة الروح وتحريكها له علمنا أنه مريد لما هو كائن في كونه لا يتحرك متحرك بخير أو شر إلا بتقديره وإرادته وقضائه .

            الوجه الرابع : لما كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها به لا يخفى على الروح من حركات الجسد وسكناته شيء علمنا أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .

            الوجه الخامس : لما كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء ، بل هو قريب إلى كل شيء في الجسد ، علمنا أنه أقرب إلى كل شيء ، ليس شيء أقرب إليه من شيء ، ولا شيء أبعد إليه من شيء ولا بمعنى قرب المسافة ؛ لأنه منزه عن ذلك .

            الوجه السادس : لما كان الروح موجودا قبل وجود الجسد ويكون موجودا بعد عدم الجسد علمنا أنه سبحانه وتعالى موجود قبل كون خلقه ، ويكون موجودا بعد فقد خلقه ما زال ولا يزال وتقدس عن الزوال .

            الوجه السابع : لما كان الروح في الجسد لا يعرف له كيفية علمنا أنه مقدس عن الكيفية .

            الوجه الثامن : لما كان الروح في الجسد لا يعلم له أينية علمنا أنه منزه عن الكيفية والأينية فلا يوصف بأين ولا كيف بل الروح موجودة في كل الجسد ما خلا منها شيء من الجسد ، وكذلك الحق سبحانه وتعالى موجود في كل مكان ما خلا منه مكان وتنزه عن المكان والزمان .

            [ ص: 290 ] الوجه التاسع : لما كان الروح في الجسد لا يدرك بالبصر ولا يمثل بالصور علمنا أنه لا تدركه الأبصار ولا يمثل بالصور والآثار ولا يشبه بالشموس والأقمار : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .

            الوجه العاشر : لما كان الروح لا يحس ولا يمس علمنا أنه منزه عن الحس والجسم واللمس والمس ، فهذا معنى قوله : من عرف نفسه عرف ربه ، فطوبى لمن عرف وبذنبه اعترف .

            وفي هذا الحديث تفسير آخر وهو أنك تعرف أن صفات نفسك على الضد من صفات ربك ، فمن عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء ، ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ عرف ربه بالوفاء والعطاء ، ومن عرف نفسه كما هي عرف ربه كما هو ، واعلم أنه لا سبيل لك إلى معرفة إياك كما إياك ، فكيف لك سبيل إلى معرفة إياه كما إياه ؟ فكأنه في قوله : من عرف نفسه عرف ربه ، علق المستحيل ؛ لأنه مستحيل أن تعرف نفسك وكيفيتها وكميتها ، فإنك إذا كنت لا تطيق بأن تصف نفسك التي هي بين جنبيك بكيفية وأينية ولا بسجية ولا هيكلية ولا هي بمرئية ، فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الربوبية بكيف وأين وهو مقدس عن الكيف والأين ؟ وفي ذلك أقول :


            قل لمن يفهم عني ما أقول قصر القول فذا شرح يطول     هو سر غامض من دونه
            ضربت والله أعناق الفحول     أنت لا تعرف إياك ولا
            تدر من أنت ولا كيف الوصول     لا ولا تدر صفات ركبت
            فيك حارت في خفاياها العقول     أين منك الروح في جوهرها
            هل تراها فترى كيف تجول     هذه الأنفاس هل تحصرها
            لا ولا تدري متى منك تزول     أين منك العقل والفهم إذا
            غلب النوم فقل لي يا جهول     أنت أكل الخبز لا تعرفه
            كيف يجري منك أم كيف تبول     فإذا كانت طواياك التي
            بين جنبيك كذا فيها خلول     كيف تدري من على العرش استوى
            لا تقل كيف استوى كيف النزول     كيف تجلى الله أم كيف يرى
            فلعمري ليس ذا إلا فضول [ ص: 291 ]     هو لا كيف ولا أين له
            وهو رب الكيف والكيف يحول     وهو فوق الفوق لا فوق له
            وهو في كل النواحي لا يزول     جل ذاتا وصفاتا وسما
            وتعالى قدره عما أقول

            وقال القونوي في شرح التعرف : ذكر بعضهم في هذا الحديث أنه من باب التعليق بما لا يكون وذلك أن معرفة النفس قد سد الشارع بابها لقوله : ( قل الروح من أمر ربي ) فنبه بذلك على أن الإنسان إذا عجز عن إدراك نفسه التي هي من جملة المخلوقات وهي أقرب الأشياء إليه فهو عن معرفة خالقه أعجز ، بل هو عاجز عن إدراك حقيقة قوله وحواسه كسمعه وبصره وشمه وكلامه وغير ذلك ، فإن للناس في كل منها اختلافات ومذاهب لا يحصل الناظر منها على طائل كاختلافهم في أن الأبصار بالانطباع أو بخروج الشعاع ، وأن الشم بتكيف الهواء أو بانبثاث الأجزاء من ذي الرائحة ، إلى غير ذلك من الاختلافات المشهورة ، فإذا كان الحال في هذه الأشياء الظاهرة التي يلابسها الإنسان على هذا المنوال ، فكيف يكون الحال في معرفة الكبير المتعال وقد تحصل مما سقناه في معنى هذا الأثر أقوال والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية