الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر أمره ، عليه الصلاة والسلام ، أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن يصلي بالصحابة أجمعين مع حضورهم كلهم وخروجه ، عليه الصلاة والسلام ، فصلى وراءه مقتديا به في بعض الصلوات على ما سنذكره ، وإماما له ولمن بعده من الصحابة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أحمد : ثنا يعقوب ، ثنا أبي ، عن ابن إسحاق قال : وقال ابن شهاب الزهري : حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن [ ص: 46 ] أسد قال : لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا عنده في نفر من المسلمين ، دعا بلال للصلاة ، فقال : " مروا من يصلي بالناس " قال : فخرجت فإذا عمر في الناس ، وكان أبو بكر غائبا فقلت : قم يا عمر فصل بالناس . قال : فقام ، فلما كبر عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، وكان عمر رجلا مجهرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين أبو بكر ؟ ! يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون " قال : فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس . وقال عبد الله بن زمعة : قال لي عمر : ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة ، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صليت . قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة . وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق حدثني الزهري . ورواه يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدثني يعقوب بن عتبة ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن زمعة ، فذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 47 ] وقال أبو داود : ثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن أبي فديك ، حدثني موسى بن يعقوب ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر ، قال : لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر . قال ابن زمعة : خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته ، ثم قال " لا لا لا ، ليصل للناس ابن أبي قحافة " يقول ذلك مغضبا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : ثنا عمر بن حفص ، ثنا أبي ، ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال الأسود : كنا عند عائشة رضي الله عنها ، فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها ، قالت : لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال ، فقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقيل له : إن أبا بكر رجل أسيف ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس . وأعاد فأعادوا له ، فأعاد الثالثة ، فقال " إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل [ ص: 48 ] بالناس " فخرج أبو بكر فصلى ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج يهادى بين رجلين ، كأني أنظر إلى رجليه تخطان الأرض من الوجع ، فأراد أبو بكر أن يتأخر ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه . قيل للأعمش : فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه نعم . ثم قال البخاري : رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة بعضه ، وزاد أبو معاوية ، عن الأعمش جلس عن يسار أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي قائما . وقد رواه البخاري في غير ما موضع من كتابه ، ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة ، عن الأعمش به ، منها ما رواه البخاري ، عن قتيبة ، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى ، عن أبي معاوية به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 49 ] وقال البخاري : ثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه : " مروا أبا بكر يصلي بالناس " قالت عائشة : قلت : إن أبا بكر إذا قام مقامك ، لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، ففعلت حفصة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مه إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل للناس " فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا . ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث مالك به . وقال الترمذي : حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البخاري : ثنا زكريا بن يحيى ثنا ابن نمير ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه فكان يصلي بهم . قال عروة : فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة ، فخرج فإذا أبو بكر يؤم الناس ، فلما رآه أبو بكر استأخر ، فأشار إليه أن كما أنت . فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة [ ص: 50 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، رضي الله عنه . ورواه مسلم من حديث عبد الله بن نمير به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي " صحيح البخاري " من حديث ابن وهب عن يونس ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ، قيل له في الصلاة ، فقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقالت له عائشة : يا رسول الله ، إن أبا بكر رجل رقيق ، إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء . فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فعاودته مثل مقالتها ، فقال : " أنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس " قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة أنها قالت : لقد عاودت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر ، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به ، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أبي بكر إلى غيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن عائشة قالت : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " قالت : قلت : يا رسول الله ، إن [ ص: 51 ] أبا بكر رجل رقيق ، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه ، فلو أمرت غير أبي بكر . قالت : والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : فراجعته مرتين أو ثلاثا . فقال " ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي " الصحيحين " من حديث عبد الملك بن عمير ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقالت عائشة : يا رسول الله ، إن أبا بكر رجل رقيق ، متى يقم مقامك لا يستطع يصلي بالناس . قال : فقال " مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف " قال : فصلى أبو بكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا زائدة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبيد الله بن عبد الله قال : دخلت على عائشة ، فقلت : ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : بلى ، ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أصلى الناس ؟ " فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فقال : " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا ، قالت : فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق فقال : " أصلى الناس ؟ " قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول [ ص: 52 ] الله . قال " ضعوا لي ماء في المخضب " ففعلنا فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق فقال " أصلى الناس ؟ " قلنا : لا هم ينتظرونك يا رسول الله . قالت : والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس ، وكان أبو بكر رجلا رقيقا ، فقال : يا عمر صل بالناس . فقال : أنت أحق بذلك . فصلى بهم تلك الأيام ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة ، فخرج بين رجلين ، أحدهما العباس لصلاة الظهر ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه أن لا يتأخر ، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه ، فجعل أبو بكر يصلي قائما ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا . قال عبيد الله : فدخلت على ابن عباس ، فقلت : ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هات . فحدثته فما أنكر منه شيئا ، غير أنه قال : سمت لك الرجل الذي كان مع العباس ؟ قلت : لا . قال هو علي . وقد رواه البخاري ومسلم جميعا ، عن أحمد بن يونس ، عن زائدة به . وفي رواية : فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي : ففي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم في هذه الصلاة ، وعلق أبو بكر [ ص: 53 ] صلاته بصلاته

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة ، وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس . يعني بذلك ما رواه الإمام أحمد . حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، حدثني أبي ، عن أبي إسحاق ، عن الأرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس قال : لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، ثم وجد خفة فخرج ، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص ، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره ، واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر رضي الله عنه . ثم رواه أيضا ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أرقم ، عن ابن عباس بأطول من هذا . وقال وكيع مرة : فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر . ورواه ابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس بنحوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الإمام أحمد : ثنا شبابة بن سوار ، ثنا شعبة ، عن نعيم بن أبي هند ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه . وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث شعبة ، وقال الترمذي حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 54 ] وقال أحمد : ثنا بكر بن عيسى ، سمعت شعبة بن الحجاج ، عن نعيم بن أبي هند ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي : أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ، أنبأنا عبد الله بن جعفر ، أنبأنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، ثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر . وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه . قال البيهقي : وكذلك رواه حميد ، عن أنس بن مالك ويونس ، عن الحسن مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أسند ذلك من طريق هشيم ; أخبرنا يونس ، عن الحسن ، قال هشيم : وأنبأنا حميد ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس ، فجلس إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها فصلى بصلاته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي : وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار ، ثنا عبيد بن شريك ، أنبأنا ابن أبي مريم ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول : آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد ملتحفا به ، خلف أبي بكر . قلت : وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح ، ولم يخرجوه . وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس ، صلوات الله وسلامه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 55 ] وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال ويحيى بن أيوب ، عن حميد ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفا بين طرفيه ، فلما أراد أن يقوم قال : " ادع لي أسامة بن زيد " فجاء فأسند ظهره إلى نحره ، فكانت آخر صلاة صلاها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي : ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة ; لأنها آخر صلاة صلاها لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الاثنين . وهذا الذي قاله البيهقي أخذه مسلما من " مغازي موسى بن عقبة " فإنه كذلك ذكر . وكذا روى أبو الأسود ، عن عروة ، وذلك ضعيف ، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم ، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى ، والحديث واحد فيحمل مطلقه على مقيده ، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة ، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة ، بل في بيته لما به من الضعف ، صلوات الله وسلامه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والدليل على ذلك ما قال البخاري ، رحمه الله ، في " صحيحه " : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أنس بن مالك ، وكان تبع النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وصحبه ، أن أبا بكر كان يصلي لهم في [ ص: 56 ] وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه ، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، تبسم يضحك ، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة ، فأشار إلينا صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم ، وأرخى الستر ، فتوفي من يومه صلى الله عليه وسلم . وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة وصالح بن كيسان ومعمر ، عن الزهري ، عن أنس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال البخاري : ثنا أبو معمر ، ثنا عبد الوارث ، ثنا عبد العزيز ، عن أنس بن مالك قال : لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فأقيمت الصلاة ، فذهب أبو بكر يتقدم ، فقال نبي الله : " عليكم بالحجاب " فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا ، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب ، فلم يقدر عليه حتى مات صلى الله عليه وسلم . ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبيه به . فهذا أوضح دليل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، لم يصل يوم الاثنين صلاة الصبح مع الناس ، وأنه كان قد انقطع عنهم ; لم يخرج إليهم ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 57 ] قلنا فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر ، كما جاء مصرحا به في حديث عائشة المتقدم ، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت ، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقي عن " مغازي موسى بن عقبة " ، وهو ضعيف ; لما قدمنا من خطبته بعدها ، ولأنه انقطع عنهم يوم الجمعة ، والسبت ، والأحد ، وهذه ثلاثة أيام كوامل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي ، عن أبي بكر بن أبي سبرة ، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة . وقال غيره : عشرين صلاة . فالله أعلم . ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها ، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ، ولسان حالهم يقول ، كما قال بعضهم :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنت أرى كالموت من بين ساعة فكيف ببين كان موعده الحشر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين ، ثم قال ما حاصله : فلعله عليه الصلاة والسلام ، احتجب عنهم في أول ركعة ، ثم خرج في الركعة الثانية ، فصلى خلف أبي بكر ، كما قال عروة وموسى بن عقبة وخفي ذلك على أنس بن مالك ، أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره . وهذا الذي ذكره أيضا بعيد جدا ; لأن أنسا قال : فلم يقدر عليه حتى مات . وفي رواية قال : فكان ذلك آخر العهد به . وقول الصحابي مقدم على قول التابعي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في [ ص: 58 ] الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام . قال : وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم ; لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا ، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلما " قلت : وهذا من كلام الأشعري ، رحمه الله ، مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق ، رضي الله عنه وأرضاه ، وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في بعض الصلوات ، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة ، لا ينافي ما روي في " الصحيح " أن أبا بكر ائتم به عليه الصلاة والسلام ; لأن ذلك في صلاة أخرى ، كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الأئمة ، رحمهم الله عز وجل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فائدة : استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ، ومنهم البخاري ، بصلاته ، عليه الصلاة والسلام ، قاعدا ، وأبو بكر مقتديا به قائما ، والناس بأبي بكر ، على نسخ قوله ، عليه الصلاة والسلام ، في الحديث [ ص: 59 ] المتفق عليه حين صلى ببعض أصحابه قاعدا ، وقد وقع عن فرس فجحش شقه فصلوا وراءه قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : " كذلك والذي نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم ; يقومون على عظمائهم وهم جلوس . وقال إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " قالوا : ثم إنه ، عليه الصلاة والسلام ، أمهم قاعدا ، وهم قيام في مرض الموت ، فدل على نسخ ما تقدم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال على وجوه كثيرة ، موضع ذكرها كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وملخص ذلك أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لأمره المتقدم ، وإنما استمر أبو بكر قائما لأجل التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم . ومن الناس من قال : بل كان أبو بكر هو الإمام في نفس الأمر كما صرح به بعض الرواة كما تقدم ، وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبادره بل يقتدي به ، فكأنه عليه الصلاة والسلام ، صار إمام الإمام ، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبي بكر ، وهو قائم ولم يجلس الصديق لأجل أنه إمام ، ولأنه يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحركات والسكنات والانتقالات . والله أعلم . ومن الناس من قال فرق بين أن يبتدئ [ ص: 60 ] الصلاة خلف الإمام في حال القيام فيستمر فيها قائما وإن طرأ جلوس الإمام في أثنائها كما في هذه الحال ، وبين أن يبتدئ الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس للحديث المتقدم . والله أعلم . ومن الناس من قال : هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام والجلوس وإن كلا منهما سائغ جائز ; الجلوس لما تقدم والقيام للفعل المتأخر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية