الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال صاحب المنازل :

السرور : اسم لاستبشار جامع . وهو أصفى من الفرح . لأن الأفراح ربما شابها الأحزان . ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع . وورد السرور [ ص: 151 ] في موضعين من القرآن في حال الآخرة .

السرور والمسرة : مصدر سره سرورا ومسرة . وكأن معنى سره : أثر في أسارير وجهه . فإنه تبرق منه أسارير الوجه . كما قال شاعر العرب :


وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

وهذا كما يقال : رأسه; إذا أصاب رأسه ، وبطنه وظهره; إذا أصاب بطنه وظهره ، وأمه; إذا أصاب أم رأسه .

وأما الاستبشار : فهو استفعال من البشرى . والبشارة : هي أول خبر صادق سار .

و " البشرى " يراد بها أمران . أحدهما : بشارة المخبر . والثاني : سرور المخبر . قال الله تعالى : لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . فسرت البشرى بهذا وهذا . ففي حديث عبادة بن الصامت . و أبي الدرداء رضي الله عنهما . عن النبي صلى الله عليه وسلم : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم ، أو ترى له .

وقال ابن عباس : بشرى الحياة الدنيا : هي عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله ، وفي الآخرة : عند خروج نفس المؤمن إذا خرجت يعرجون بها إلى الله ، تزف كما تزف العروس ، تبشر برضوان الله .

وقال الحسن : هي الجنة . واختاره الزجاج و الفراء . وفسرت بشرى الدنيا بالثناء الحسن ، يجري له على ألسنة الناس . وكل ذلك صحيح .

فالثناء : من البشرى ، والرؤيا الصالحة من البشرى ، وتبشير الملائكة له عند [ ص: 152 ] الموت من البشرى . والجنة من أعظم البشرى . قال الله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . وقال تعالى : وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .

قيل : وسميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه . ولذلك كانت نوعين : بشرى سارة تؤثر فيه نضارة وبهجة ، وبشرى محزنة تؤثر فيه بسورا وعبوسا . ولكن إذا أطلقت كانت للسرور . وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به .

قوله " وهو أصفى من الفرح " واحتج على ذلك بأن الأفراح ربما شابها أحزان ، أي ربما مازجها ضدها . بخلاف السرور .

فيقال : والمسرات ربما شابها أنكاد وأحزان فلا فرق .

قوله : ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع

يريد : أن الله تعالى نسب الفرح إلى أحوال الدنيا في قوله تعالى : حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة وفي قوله تعالى : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقوله تعالى : إنه لفرح فخور . فإن الدنيا لا تتخلص أفراحها من أحزانها وأتراحها ألبتة . بل ما من فرحة إلا ومعها ترحة سابقة ، أو مقارنة ، أو لاحقة . ولا تتجرد الفرحة . بل لا بد من ترحة تقارنها . ولكن قد تقوى الفرحة على الحزن فينغمر حكمه وألمه مع وجودها . وبالعكس .

فيقال : ولقد نزل القرآن أيضا بالفرح في أمور الآخرة في مواضع ، كقوله تعالى : فرحين بما آتاهم الله من فضله . وقوله تعالى : فبذلك فليفرحوا فلا فرق بينهما من هذا الوجه الذي ذكره .

قوله : وورد اسم السرور في القرآن في موضعين في حال الآخرة .

يريد بهما : قوله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ ص: 153 ] والموضع الثاني : قوله : ولقاهم نضرة وسرورا .

فيقال : وورد السرور في أحوال الدنيا في موضع على وجه الذم . كقوله تعالى : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا .

فقد رأيت ورود كل واحد من الفرح والسرور في القرآن بالنسبة إلى أحوال الدنيا وأحوال الآخرة . فلا يظهر ما ذكره من الترجيح .

بل قد يقال : الترجيح للفرح : لأن الرب تبارك وتعالى يوصف به . ويطلق عليه اسمه دون السرور ، فدل على أن معناه أكمل من معنى السرور ، وأمر الله به في قوله تعالى فبذلك فليفرحوا وأثنى على السعداء به في قوله : فرحين بما آتاهم الله من فضله .

وأما قوله تعالى ولقاهم نضرة وسرورا وقوله وينقلب إلى أهله مسرورا فعدل إلى لفظ السرور لاتفاق رءوس الآي . ولو أنه ترجم الباب بباب الفرح ، لكان أشد مطابقة للآية التي استشهد بها . والأمر في ذلك قريب . فالمقصود أمر وراء ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية