الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 152 ] ( سورة المسد ) .

                                                                                                                                                                                                                                            خمس آيات ، مكية بالاتفاق

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] ثم بين في سورة : ( قل ياأيها الكافرون ) [ الكافرون : 1 ] أن محمدا عليه الصلاة والسلام أطاع ربه وصرح بنفي عبادة الشركاء والأضداد وأن الكافر عصى ربه واشتغل بعبادة الأضداد والأنداد ، فكأنه قيل : إلهنا ما ثواب المطيع ، وما عقاب العاصي ؟ فقال : ثواب المطيع حصول النصر والفتح والاستيلاء في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، كما دل عليه سورة : ( إذا جاء نصر الله ) وأما عقاب العاصي فهو الخسار في الدنيا والعقاب العظيم في العقبى ، كما دلت عليه سورة : ( تبت ) ونظيره قوله تعالى في آخر سورة الأنعام : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) [ الأنعام : 165 ] فكأنه قيل : إلهنا أنت الجواد المنزه عن البخل والقادر المنزه عن العجز ، فما السبب في هذا التفاوت ؟ فقال : ( ليبلوكم في ما آتاكم ) [ الأنعام : 165 ] فكأنه قيل : إلهنا فإذا كان العبد مذنبا عاصيا فكيف حاله ؟

                                                                                                                                                                                                                                            فقال في الجواب : ( إن ربك سريع العقاب ) [ الأنعام : 165 ] وإن كان مطيعا منقادا كان جزاؤه أن الرب تعالى يكون غفورا لسيئاته في الدنيا رحيما كريما في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال ابن عباس : كان رسول الله يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) [ الشعراء : 214 ] فصعد الصفا ونادى يا آل غالب فخرجت إليه غالب من المسجد فقال أبو لهب : هذه غالب قد أتتك فما عندك ؟ ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال أبو لهب : هذه لؤي قد أتتك فما عندك ؟ ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة ، فقال أبو لهب : هذه مرة قد أتتك فما عندك ؟ ثم قال يا آل كلاب ، ثم قال بعده : يا آل قصي ، فقال أبو لهب : هذه قصي قد أتتك فما عندك ؟ فقال : إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون ، اعلموا أني لا أملك لكم من الدنيا حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله ، فأشهد بها لكم عند ربكم ، فقال أبو لهب عند ذلك : تبا لك ألهذا دعوتنا ؟ فنزلت السورة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ذات يوم وقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا : ما لك ؟ قال : أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب [ ص: 153 ] شديد ، فقال عند ذلك أبو لهب ما قال فنزلت السورة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه جمع أعمامه وقدم إليهم طعاما في صحفة فاستحقروه وقالوا : إن أحدنا يأكل كل الشاة ، فقال : كلوا فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلا اليسير ، ثم قالوا : فما عندك ؟ فدعاهم إلى الإسلام فقال أبو لهب ما قال ، وروي أنه قال أبو لهب : فما لي إن أسلمت ؟ فقال : ما للمسلمين ، فقال : أفلا أفضل عليهم ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : بماذا تفضل ؟ فقال : تبا لهذا الدين يستوي فيه أنا وغيري .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : كان إذا وفد على النبي وفد سألوا عمه عنه وقالوا : أنت أعلم به فيقول لهم : إنه ساحر فيرجعون عنه ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، فقال : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبا له وتعسا ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فحزن ، ونزلت السورة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية