الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 9 ] فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما .

تفريع على أن تبتغوا بأموالكم وهو تفريع لفظي لبيان حق المرأة في المهر وأنه في مقابلة الاستمتاع تأكيدا لما سبقه من قوله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح ، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرد حق للزوجة أن تطالب به ; ولذلك فالظاهر أن تجعل ( ما ) اسم شرط صادقا على الاستمتاع ، لبيان أنه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر ، لأنه الفارق بينه وبين السفاح ، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله : فآتوهن أجورهن فريضة لأنه اعتبر جوابا للشرط .

والاستمتاع : الانتفاع ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وسمى الله النكاح استمتاعا لأنه منفعة دنيوية ، وجميع منافع الدنيا متاع ، قال تعالى : وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع .

والضمير المجرور بالباء عائد على ( ما ) . و ( من ) تبعيضية ، أي : فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهن ; فلا يجوز استمتاع بهن دون مهر .

أو يكون ( ما ) صادقة على النساء ، والمجرور بالباء عائدا إلى الاستمتاع المأخوذ من ( استمتعتم ) و ( من ) بيانية ، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها .

ويجوز أن تجعل ( ما ) موصولة ، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط ، وجيء حينئذ بـ ( ما ) ولم يعبر بـ ( من ) لأن المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة ، على أن ( ما ) تجيء للعاقل كثيرا ولا عكس . و " فريضة " حال من ( أجورهن ) أي مفروضة ، أي مقدرة بينكم . والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة .

وأما نكاح التفويض : وهو أن ينعقد النكاح مع السكوت عن المهر . وهو جائز عند جميع الفقهاء ; فجوازه مبني على أنهم لا يفوضون إلا وهم يعلمون معتاد أمثالهم ، ويكون ( فريضة ) بمعنى تقديرا ، ولذلك قال : ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . أي فيما زدتم لهن أو أسقطن لكم عن طيب نفس . فهذا معنى الآية بينا لا غبار عليه .

[ ص: 10 ] وذهب جمع ، منهم ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وابن جبير : أنها نزلت في نكاح المتعة لما وقع فيها من قوله : فما استمتعتم به منهن . ونكاح المتعة : هو الذي تعاقد الزوجان على أن تكون العصمة بينهما مؤجلة بزمان أو بحالة ، فإذا انقضى ذلك الأجل ارتفعت العصمة ، وهو نكاح قد أبيح في الإسلام لا محالة ، ووقع النهي عنه يوم خيبر ، أو يوم حنين على الأصح . والذين قالوا : حرم يوم خيبر قالوا : ثم أبيح في غزوة الفتح ، ثم نهي عنه في اليوم الثالث من يوم الفتح . وقيل : نهي عنه في حجة الوداع ، قال أبو داود : وهو أصح . والذي استخلصناه أن الروايات فيها مضطربة اضطرابا كبيرا .

وقد اختلف العلماء في الأخير من شأنه : فذهب الجمهور إلى أن الأمر استقر على تحريمه ، فمنهم من قال : نسخته آية المواريث لأن فيها ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم فجعل للأزواج حظا من الميراث ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها . وقيل : نسخها ما رواه مسلم عن سبرة الجهني ، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندا ظهره إلى الكعبة ثالث يوم من الفتح يقول أيها الناس إن كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة . وانفراد سبرة به في مثل ذلك اليوم مغمز في روايته ، على أنه ثبت أن الناس استمتعوا . وعن علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وجماعة من التابعين والصحابة أنهم قالوا بجوازه . قيل : مطلقا ، وهو قول الإمامية ، وقيل : في حال الضرورة عند أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن .

وروي عن ابن عباس أنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شفى . وعن عمران بن حصين في الصحيح أنه قال نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال رجل برأيه ما شاء ، يعني عمر بن الخطاب حين نهى عنها في زمن من خلافته بعد أن عملوا بها في معظم خلافته ، وكان ابن عباس يفتي بها ، فلما قال له سعيد بن جبير : أتدري ما صنعت بفتواك فقد سارت بها الركبان حتى قال القائل :

[ ص: 11 ]

قد قلت للركب إذ طال الثواء بـنـا يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس     في بضة رخصة الأطراف ناعمة
تكون مثواك حتى مرجع الناس

أمسك عن الفتوى وقال : إنما أحللت مثل ما أحل الله الميتة والدم ، يريد عند الضرورة . واختلف العلماء في ثبات علي على إباحتها ، وفي رجوعه . والذي عليه علماؤنا أنه رجع عن إباحتها . أما عمران بن حصين فثبت على الإباحة . وكذلك ابن عباس على الصحيح . وقال مالك : يفسخ نكاح المتعة قبل البناء وبعد البناء ، وفسخه بغير طلاق ، وقيل : بطلاق ، ولا حد فيه على الصحيح من المذهب ، وأرجح الأقوال أنها رخصة للمسافر ونحوه من أحوال الضرورات ، ووجه مخالفتها للمقصد من النكاح ما فيها من التأجيل . وللنظر في ذلك مجال .

والذي يستخلص من مختلف الأخبار أن المتعة أذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، ونهى عنها مرتين ، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرر ولكنه إناطة إباحتها بحال الاضطرار ، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنه نسخ . وقد ثبت أن الناس استمتعوا في زمن أبي بكر ، وعمر ، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته . والذي استخلصناه في حكم نكاح المتعة أنه جائز عند الضرورة الداعية إلى تأجيل مدة العصمة ، مثل الغربة في سفر أو غزو إذا لم تكن مع الرجل زوجه . ويشترط فيه ما يشترط في النكاح من صداق وإشهاد وولي حيث يشترط ، وأنها تبين منه عند انتهاء الأجل ، وأنها لا ميراث فيها بين الرجل والمرأة ، إذا مات أحدهما في مدة الاستمتاع ، وأن عدتها حيضة واحدة ، وأن الأولاد لاحقون بأبيهم المستمتع . وشذ النحاس فزعم أنه لا يلحق الولد بأبيه في نكاح المتعة . ونحن نرى أن هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة ، وليس سياقها سامحا بذلك ، ولكنها صالحة لاندراج المتعة في عموم ( ما استمتعتم ) فيرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى ما سمعت آنفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية