الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 27 ] [ سورة القدر ]

                                                                                                                                                                                                                                            خمس آيات مكية

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( إنا أنزلناه في ليلة القدر )

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أن المراد : إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر ، لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر ؛ شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح ، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره ، وقوله : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) [الواقعة : 83] لم يذكر الموت لشهرته ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : تعظيم الوقت الذي أنزل فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه تعالى قال في بعض المواضع : ( إني ) كقوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) [البقرة : 30] وفي بعض المواضع " إنا " كقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) . ( إنا نحن نزلنا الذكر ) [الحجر : 9] ، ( إنا أرسلنا نوحا ) [نوح : 1] ، ( إنا أعطيناك الكوثر ) [الكوثر : 1] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( إنا ) تارة يراد به التعظيم ، وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع ، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية ، لأنه لو كان كل واحد منهم قادرا على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم ، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصا ، وإن لم يكن كل واحد منهم قادرا على الكمال كان ناقصا ، فعلمنا أن قوله : ( إنا ) محمول على التعظيم لا على الجمع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إن قيل : ما معنى أنه أنزل في ليلة القدر ، مع العلم بأنه أنزل نجوما ؟ قلنا فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 28 ]

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال الشعبي : ابتدأ بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال ابن عباس : أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر ، ثم إلى الأرض نجوما ، كما قال : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) [الواقعة : 75] وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [البقرة : 185] لا يقال : فعلى هذا القول لم لم يقل : أنزلناه إلى السماء ؟ لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض ، لأنا نقول : إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض ، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه ، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد . يقال : جاء فلان ، أو يقال : الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه ، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال :


                                                                                                                                                                                                                                            وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الديار من الديار



                                                                                                                                                                                                                                            وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة ، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة ، كما قال : ( وجعلنا السماء سقفا ) [الأنبياء : 32] فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث في الجواب : أن التقدير أنزلنا هذا الذكر : ( في ليلة القدر ) أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : القدر مصدر قدرت أقدر قدرا ، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور ، قال : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [القمر : 49] والقدر والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم ، قال الواحدي : القدر في اللغة بمعنى التقدير ، وهو جعل الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان ، واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر ، على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام ، قال عطاء ، عن ابن عباس : إن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية ، ونظيره قوله تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) [الدخان : 4] واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة ، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل ، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ ، وهذا القول اختيار عامة العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : نقل عن الزهري أنه قال : ليلة القدر ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان ، أي منزلة وشرف ، ويدل عليه قوله : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) ثم هذا يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد ، وعن أبي بكر الوراق : سميت ليلة القدر ؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر ، على لسان ملك ذي قدر ، على أمة لها قدر ، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : ليلة القدر ؛ أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى أخفاها ، كما أخفى سائر الأشياء ، فإنه أخفى رضاه في الطاعات ، حتى يرغبوا في الكل ، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل ، وأخفى وليه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات ، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء ، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل ، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة ، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف ، فكذا أخفى هذه [ ص: 29 ] الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : كأنه تعالى يقول : لو عينت ليلة القدر ، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية ، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية ، فوقعت في الذنب ، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك ، فلهذا السبب أخفيتها عليك ، روي أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائما ، فقال : يا علي نبهه ليتوضأ ، فأيقظه علي ، ثم قال علي : يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات ، فلم لم تنبهه ؟ قال : لأن رده عليك ليس بكفر ، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى ، فإذا كان هذا رحمة الرسول ، فقس عليه رحمة الرب تعالى ، فكأنه تعالى يقول : إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر ، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها ، فيكتسب ثواب الاجتهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر ، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان ، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر ، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته ، ويقول : كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء . فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة ، فكيف لو جعلتها معلومة له فحينئذ يظهر سر قوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم ؟ قال الشعبي : نعم يومها كليلتها ، ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام ، ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين ألزمناه بيوميهما قال تعالى : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) [الفرقان : 62] أي اليوم يخلف ليلته وبالضد .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية