الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 66 ] الخامسة : الجمهور لا يشترط لصحة الإجماع انقراض العصر خلافا لبعض الشافعية ، وهو ظاهر كلام أحمد ; وأومأ إلى الأول .

                وقيل : يشترط للسكوتي ; وقيل : للقياسي .

                لنا : الإجماع : الاتفاق ، وقد وجد ، والسمعي عام ; فالتخصيص تحكم ، ولأنه لو اشترط لما صح احتجاج التابعين على متأخري الصحابة به ، ولامتنع وجوده أصلا للتلاحق ، واللازمان باطلان ، وفي الأخير نظر .

                التالي السابق


                المسألة " الخامسة : الجمهور " أي : مذهب الجمهور أنه " لا يشترط لصحة الإجماع انقراض " عصر المجمعين ، وهو قول أبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة وأكثر الشافعية ; " خلافا لبعض الشافعية " وبعض المتكلمين ; منهم ابن فورك ، " وهو ظاهر كلام أحمد " وقوله الموافق للجمهور أومأ إليه إيماء ، وهو معنى قولي : " وهو ظاهر كلام أحمد " وأعني اشتراط انقراض العصر " وأومأ إلى الأول " يعني عدم اشتراط ذلك .

                " وقيل " أي : قال بعض الأصوليين : " يشترط " انقراض العصر للإجماع السكوتي دون غيره ، وهو اختيار الآمدي ، لاحتمال أن يكون سكوت بعضهم نظرا وتأملا ، لا جزما ووفاقا ، ثم يظهر له دليل الخلاف ، فيجب قبوله منهم ، وإظهار الخلاف بعد السكوت دليل ظهور هذا الاحتمال ، بخلاف الإجماع بالأقوال والأفعال ، لانتفاء هذا الاحتمال .

                " وقيل " أي : وقال بعضهم : يشترط انقراضه للإجماع القياسي ، أي : المنعقد عن قياس ، كنحو ما سبق ، فإن القياس يحتاج إلى نظر وتأمل ، [ ص: 67 ] ويقع فيه الخطأ كثيرا ، فيحتمل أن سكوت الساكت فيه ، أو وفاق الموافق كان عن تأمل أو عن خطأ ، ثم يظهر له بعد ذلك دليل الصواب .

                قوله : " لنا : " أي : على عدم اشتراط انقراض العصر وجوه :

                أحدها : أن " الإجماع : الاتفاق ، وقد وجد " قبل انقراض العصر " والسمعي " أي : دليل السمع الدال على صحة الإجماع وعصمته " عام " في كونه حجة قبل انقراض العصر وبعده " فالتخصيص " بأنه إنما يكون حجة بعد انقراض العصر " تحكم " من غير دليل .

                وبيان عموم الدليل السمعي ; أن قوله تعالى : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] يقتضي وجوب اتباع سبيل المؤمنين ، وليس فيه تعرض لزمان دون زمان ، فيكون عاما في جميع الأزمنة بعد انعقاده .

                فإن قيل : وجوب اتباع سبيل المؤمنين مأمور به ، لأنه واجب ، وكل واجب مأمور به ، وإذا ثبت أنه مأمور به ، كان عمومه في الزمان مبنيا على أن الأمر يقتضي التكرار ، وهو ممنوع .

                وأيضا فإن وجوب اتباع سبيل المؤمنين من باب المطلق ، لا من باب العام ، والمطلق يحصل امتثاله بالمرة الواحدة ، فاتباع سبيل المؤمنين يحصل بالاتباع في بعض الأزمان ، وهو بعد انقراض العصر كما قلناه .

                فالجواب : أن مثل هذا السؤال إنما يرخص في إيراد مثله عند التشغيب ، والمغاليط الجدلية لقهر الخصم ، أما عند التحقيق ، فلا ، ونحن نعلم قطعا بالضرورة وإجماع المسلمين ، أن الله - سبحانه وتعالى - أراد الدوام على اتباع [ ص: 68 ] سبيل المؤمنين في عموم الأزمنة ، فيبقى ما ذكرتموه من هذا السؤال خيالا يصادم خيالا ، مع أن بطلان ما ذكرتموه من جهة التفصيل ظاهر .

                الوجه الثاني : " لو اشترط " انقراض العصر لصحة الإجماع " لما صح احتجاج التابعين على متأخري الصحابة به " أي : بالإجماع ، إذ قد كان للصحابة أن يقولوا للتابعين : كيف تحتجون علينا بالإجماع وهو لم يصح ، ولم يستقر بعد ، لأن شرط صحته انقراض عصر المجمعين عليه ، وهو باق لأننا نحن من المجمعين ، وها نحن باقون ، لكن التابعون كانوا يحتجون بالإجماع على متأخري الصحابة ، كأنس وغيره ، ويقرونهم عليه ، فدل على أن انقراض العصر لا يشترط لصحة الإجماع .

                وأيضا : فإن الصحابة كانوا يحتجون بالإجماع بعضهم على بعض ، وعلى بعض التابعين ، كقول عثمان في حجب الأم بأخوين : لا أخالف أمرا كان قبلي ، ولو اشترط انقراض العصر ، لما قامت به الحجة قبل ذلك .

                الوجه الثالث : لو اشترط انقراض العصر لصحة الإجماع " لامتنع " وتعذر " وجوده أصلا ، للتلاحق " أي : لتلاحق المجتهدين بعضهم ببعض ، متصلا في سائر الأعصار ، فإن الولادة والتناسل في العالم متصل ، فكلما ولد مولود ، واشتغل بالعلم حتى بلغ رتبة الاجتهاد ، وقد بقي من المجتهدين المجمعين قبله ولو واحد ، لم يتم الإجماع بدون هذا المجتهد اللاحق ، فيتلاحق مجتهدو التابعين بمجتهدي الصحابة ، فيمتنع استقرار إجماعهم ، ومجتهدو [ ص: 69 ] تابعي التابعين بمجتهدي التابعين كذلك ، وهلم جرا حتى تقوم الساعة ولا يستقر الإجماع ، لكن الإجماع ثابت مستقر ، محتج به في كل عصر ، باتفاق أهله ، فدل على أن انقراض العصر لا يشترط له .

                قوله : " واللازمان باطلان " يعني اللازمين في هذين الوجهين الثاني والثالث ، لأنهما دخلا في ضمن ملازمة واحدة وهي قوله : " لأنه لو اشترط " يعني انقراض العصر " لما صح احتجاج التابعين " بالإجماع " ولامتنع وجوده أصلا للتلاحق " فامتناع وجود الإجماع ، وعدم صحة احتجاج التابعين به على الصحابة لازمان ، لاشتراط انقراض العصر له ، وهذان اللازمان باطلان ، لأن الإجماع قد وجد ، وما امتنع ، واحتجاج التابعين به على الصحابة قد صح ، وما عدم ، ولا انتفى ، وإذا بطل اللازمان ، بطل ملزومهما ، وهو اشتراط انقراض العصر للإجماع وهو المطلوب .

                قوله : " وفي الأخير نظر " أي : في الوجه الأخير ، وهو امتناع الإجماع للتلاحق ، وصحة الاستدلال به نظر ، لأن الخصم إنما يشترط انقراض عصر المجمعين ، لا من يأتي بعدهم ويلحق بهم ، وعلى هذا التقدير ، لا يلزم من تلاحق المجتهدين امتناع وجود الإجماع أصلا ، فلما انقرض عصر الصحابة ، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد ، استقر إجماعهم ، وصح ، وصار حجة على من بعدهم من التابعين ; ولو كان فيهم مائة ألف مجتهد قد أدرك الصحابة ، لم يقدح ذلك في استقرار إجماعهم بانقراضهم ، وكذلك حكم [ ص: 70 ] إجماع التابعين مع من بعدهم ، وهلم جرا ، فهذا هو المراد بانقراض العصر ، لأن المجمعين ينقرضون ، وليس على وجه الأرض مجتهد من غيرهم .

                وأبلغ من هذا : أن أهل العصر الأول إذا أجمعوا على حكم ، ثم نشأ منهم مجتهد ، لم يحضر إجماعهم على ذلك الحكم ، كأصاغر مجتهدي الصحابة مع أكابرهم ، لم يشترط في انقراض عصرهم انقراض ذلك المجتهد اللاحق لهم ، الذي لم يحضر معهم الإجماع في ذلك الحكم ، بل يكفي في استقرار إجماعهم ذلك أن ينقرضوا هم دونه .

                وهذا الوجه يحتج به كثير من الفضلاء على عدم اشتراط انقراض العصر ، وهو مستدرك بما ذكرت . نعم هذا الاستدراك قد يستدرك بأن المشترط لانقراض العصر ، إنما اشترطه لجواز وقوع الإجماع عن اجتهاد ، وأن بعض المجمعين يتغير اجتهاده ، ويظهر له دليل الخلاف نصا أو اجتهادا صحيحا ، فيجب المصير إليه .

                وهذا بعينه موجود في اللاحق . وحينئذ يلزم امتناع وجود الإجماع أصلا ، للتلاحق كما سبق .

                قال الآمدي : والمعتمد يعني في عدم اشتراط انقراض العصر أن المجمعين هم كل الأمة فيما أجمعوا عليه ، فكان إجماعهم حجة لما سبق من النصوص .

                قلت : حتى على اللاحق ، فلا يضر لحوقه .




                الخدمات العلمية