الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب حكم المحاربين والمرتدين

                                                                                                                1671 وحدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة كلاهما عن هشيم واللفظ ليحيى قال أخبرنا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب وحميد عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في أثرهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                فيه حديث العرنيين أنهم قدموا المدينة وأسلموا واستوخموها وسقمت أجسامهم ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة ، فخرجوا فصحوا ، فقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الذود ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون ، حتى ماتوا . هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين ، وهو موافق لقول الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض .

                                                                                                                واختلف العلماء في المراد بهذه الآية الكريمة ، فقال مالك : هي على التخيير ، فيخير الإمام بين هذه الأمور ، إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله ، وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي : الإمام بالخيار وإن قتلوا . وقال الشافعي وآخرون : هي على التقسيم ، فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم [ ص: 311 ] وأرجلهم من خلاف ، فإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئا ولم يقتلوا ، طلبوا حتى يعزروا ، وهو المراد بالنفي عندنا ، قال أصحابنا : لأن ضرر هذه الأفعال مختلف ، فكانت عقوباتها مختلفة ، ولم تكن للتخيير ، وتثبت أحكام المحاربة في الصحراء ، وهل تثبت في الأمصار ؟ فيه خلاف ، قال أبو حنيفة : لا تثبت ، وقال مالك والشافعي : تثبت ، قال القاضي عياض رضي الله عنه : واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا ، فقال بعض السلف : كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ ، وقيل : ليس منسوخا ، وفيهم نزلت آية المحاربة وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ما فعل قصاصا ; لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك ، وقد رواه مسلم في بعض طرقه ، ورواه ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأهل السير والترمذي ، وقال بعضهم : النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام .

                                                                                                                وأما قوله : ( يستسقون فلا يسقون ) فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ، ولا نهى عن سقيهم . قال القاضي : وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصدا فيجمع عليه عذابان ، قلت : قد ذكر في هذا الحديث الصحيح أنهم قتلوا الرعاة ، وارتدوا عن الإسلام ، وحينئذ لا يبقى لهم حرمة في سقي الماء ولا غيره ، وقد قال أصحابنا : لا يجوز لمن معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش ، ويتيمم ، ولو كان ذميا أو بهيمة وجب سقيه ، ولم يجز الوضوء به حينئذ . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( إن ناسا من عرينة ) هي بضم العين المهملة وفتح الراء وآخرها نون ثم هاء وهي قبيلة معروفة .

                                                                                                                قوله : ( قدموا المدينة فاجتووها ) هي بالجيم والمثناة فوق ، ومعناه : استوخموها كما فسره في الرواية الأخرى أي : لم توافقهم ، وكرهوها لسقم أصابهم ، قالوا : وهو مشتق من الجوى ، وهو داء في الجوف .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا فصحوا ) في هذا الحديث أنها إبل الصدقة ، وفي غير مسلم : أنها لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلاهما صحيح ، فكان بعض الإبل للصدقة ، وبعضها للنبي صلى الله عليه وسلم . واستدل أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران ، وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي ، وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات ، فإن قيل : كيف أذن لهم في شرب لبن الصدقة ؟ فالجواب : أن ألبانها للمحتاجين من المسلمين وهؤلاء إذ ذاك منهم .

                                                                                                                قوله : ( ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم ) وفي بعض الأصول المعتمدة ( الرعاء ) وهما لغتان ، يقال راع ورعاة كقاض وقضاة ، وراع ورعاء بكسر الراء وبالمد ، مثل : صاحب وصحاب .

                                                                                                                قوله : ( وسمل أعينهم ) هكذا هو في معظم النسخ ( سمل ) باللام ، وفي بعضها ( سمر ) بالراء [ ص: 312 ] والميم مخففة ، وضبطناه في بعض المواضع في البخاري ( سمر ) بتشديد الميم ، ومعنى سمل باللام نقاها وأذهب ما فيها ، ومعنى سمر بالراء : كحلها بمسامير محمية ، وقيل : هما بمعنى .




                                                                                                                الخدمات العلمية