الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا .

مناسبة عطف الأمر على ما قبله أنه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام ، لأن المتصرفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم ، أو من فروع تقوى الله الذي يتساءلون به وبالأرحام فيجعلون للأرحام من الحظ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله . وشيء هذا شأنه حقيق بأن تراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك . وهذا مما أشار إليه قوله تعالى وبث منهما رجالا كثيرا ونساء .

[ ص: 219 ] والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي ، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء وجعله حقا له ، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى إنا أعطيناك الكوثر وفي الحديث رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها .

واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة ، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يتائم ، فوقع فيه قلب مكاني فقالوا يتامئ ثم خففوا الهمزة فصارت ألفا وحركت الميم بالفتح ، وإذا جمع به يتيم فهو إما جمع الجمع بأن جمع أولا على يتمى ، كما قالوا : أسير وأسرى ، ثم جمع على يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة ، أو جمع فعيل على فعائل لكونه صار اسما مثل أفيل وأفائل ، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفا . وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم ، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي :


أأطلال حسن في البراق اليتائم سلام على أطلالكن القدائم

واشتقاق اليتيم من الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة أي المنفردة بالحسن ، وفعله من باب ضرب وهو قاصر ، وأطلقه العرب على من فقد أبوه في حال صغره كأنه بقي منفردا لا يجد من يدفع عنه ، ولم يعتد العرب بفقد الأم في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة ، ولكنه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه . وقد ظهر مما راعوه في الاشتقاق أن الذي يبلغ مبلغ الرجال لا يستحق أن يسمى يتيما إذ قد بلغ مبلغ الدفع عن نفسه ، وذلك هو إطلاق الشريعة لاسم اليتيم ، والأصل عدم النقل .

وقيل : هو في اللغة من فقد أبوه ، ولو كان كبيرا ، أو كان صغيرا وكبر ، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحا . وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغلب في ضمير التذكير في قوله " أموالهم " .

وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم ، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقا عليه اسم اليتيم ، إذ اليتيم خاص بمن لم يبلغ ، وهو حينئذ غير صالح للتصرف في ماله ، فتعين تأويل الآية إما بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم ، فلنا أن نؤول " آتوا " بغير معنى ادفعوا . وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنه قال : نزلت هذه الآية في الذين لا يورثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية ، فيكون " آتوا " [ ص: 220 ] بمعنى عينوا لهم حقوقهم ، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام ، لا تأكيد بعضها لبعض ، أو تقييد بعضها لبعض . وقال صاحب الكشاف يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة فهو تأويل للإيتاء بلازمة وهو الحفظ الذي يترتب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء ، عليه فيكون هو معنى قوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . وعلى هذين الوجهين فالمراد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله وابتلوا اليتامى الآية . ولنا أن نؤول اليتامى بالذين جاوزوا حد اليتم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع ، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حد اليتيم ، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيدا بقوله الآتي حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . ومن الناس من قال : اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنه مشتق من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه ، ولا يخفى أن هذا القول جمود على توهم أن الانفراد حقيقي وإنما وضع اللفظ للانفراد المجازي ، وهو انعدام الأب المنزل منزلة بقاء الولد منفردا وما هو بمنفرد فإن له أما وقوما .

قيل : نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره ، فلما بلغ طلب ماله ، فمنعه عمه ، فنزلت هذه الآية ، فرد المال لابن أخيه ، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم .

وقوله ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيب . والقول في تعدية فعل تبدل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة البقرة قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وعلى ما تقرر هناك يتعين أن يكون الخبيث هو المأخوذ ، والطيب هو المتروك .

والخبيث والطيب أريد بهما الوصف المعنوي دون الحسي ، وهما استعارتان; فالخبيث المذموم أو الحرام ، والطيب عكسه وهو الحلال : وتقدم في قوله تعالى يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا في البقرة . فالمعنى : ولا تكسبوا المال الحرام [ ص: 221 ] وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام ، فالمنهي عنه هنا هو ضد المأمور به من قبل تأكيدا للأمر ، ولكن النهي بين ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل الأمر ، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبديل مجازا ، والخبيث والطيب كذلك ، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال . وعن السدي ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي .

وقوله ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمها إلى أموال أوليائهم ، فينتسق في الآية أمر ونهيان : أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام ، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها ، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول .

والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التام ، لأن الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنه يحرزه في داخل جسده ، ولا مطمع في إرجاعه ، وضمن ( تأكلوا ) معنى تضموا فلذلك عدي ب " إلى " أي : لا تأكلوها بأن تضموها إلى أموالكم .

وليس قيد " إلى أموالكم " محط النهي ، بل النهي واقع عن أكل أموالهم مطلقا سواء كان للآكل مال يضم إليه مال يتيمه أم لم يكن ، ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثر ، ذكر هذا القيد رعيا للغالب ، ولأنه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنهم أغنياء ; على أن التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين ، ولذلك روي : أن المسلمين تجنبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة وإن تخالطوهم فإخوانكم فقد فهموا أن ضم مال اليتيم إلى مال الوصي حرام ، مع علمهم بأن ذلك ليس مشمولا للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضم . وهما في فهم العرب نهيان ، وليس هو نهيا عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتا بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدون بصالح لأن يكون مفهوم موافقة .

والحوب بضم الحاء لغة الحجاز ، وبفتحها لغة تميم ، وقيل : هي حبشية ، ومعناه ، الإثم والجملة تعليل للنهي : لموقع إن منها ، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنه [ ص: 222 ] إثم عظيم . ولكون إن في مثله لمجرد الاهتمام لتقييد التعليل أكد الخبر بكان الزائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية