الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( 21 ) ) .

يقول تعالى ذكره : فوقهم ، يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سندس . وكان بعض أهل التأويل يتأول قوله : ( عاليهم ) فوق حجالهم المثبتة عليهم ( ثياب سندس ) وليس ذلك بالقول المدفوع ، لأن ذلك إذا كان فوق حجال هم فيها ، فقد علاهم فهو عاليهم .

وقد اختلف أهل القراءة في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة وبعض قراء مكة ( عاليهم ) بتسكين الياء . وكان عاصم وأبو عمرو وابن كثير يقرءونه بفتح الياء ، فمن فتحها جعل قوله ( عاليهم ) اسما مرافعا للثياب ، مثل قول القائل : ظاهرهم ثياب سندس .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقوله : ( ثياب سندس ) يعني : ثياب ديباج رقيق حسن ، والسندس : هو ما رق من الديباج . [ ص: 113 ]

وقوله : ( خضر ) اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه أبو جعفر القارئ وأبو عمرو برفع : ( خضر ) على أنها نعت للثياب ، وخفض ( إستبرق ) عطفا به على السندس ، بمعنى : وثياب إستبرق . وقرأ ذلك عاصم وابن كثير ( خضر ) خفضا ( وإستبرق ) رفعا ، عطفا بالإستبرق على الثياب ، بمعنى : عاليهم إستبرق ، وتصييرا للخضر نعتا للسندس . وقرأ نافع ذلك : ( خضر ) رفعا على أنها نعت للثياب ( وإستبرق ) رفعا عطفا به على الثياب . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( خضر وإستبرق ) خفضا كلاهما . وقرأ ذلك ابن محيصن بترك إجراء الإستبرق : ( وإستبرق ) بالفتح بمعنى : وثياب إستبرق ، وفتح ذلك أنه وجهه إلى أنه اسم أعجمي . ولكل هذه القراءات التي ذكرناها وجه ومذهب غير الذي سبق ذكرنا عن ابن محيصن ، فإنها بعيدة من معروف كلام العرب ، وذلك أن الإستبرق نكرة ، والعرب تجري الأسماء النكرة وإن كانت أعجمية ، والإستبرق : هو ما غلظ من الديباج . وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في ذلك حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي ( فيما مضى قبل فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الإستبرق : الديباج الغليظ .

وقوله : ( وحلوا أساور من فضة ) يقول : وحلاهم ربهم أساور ، وهي جمع أسورة من فضة .

وقوله : ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) يقول تعالى ذكره : وسقى هؤلاء الأبرار ربهم شرابا طهورا ، ومن طهره أنه لا يصير بولا نجسا ، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك .

كالذي وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) قال : عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي ، مثله .

قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم التيمي ، قال : إن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مئة رجل من أهل الدنيا ، وأكلهم وهمتهم ، فإذا أكل سقي شرابا طهورا ، فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذفر ، ثم تعود شهوته . [ ص: 114 ]

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( شرابا طهورا ) قال : ما ذكر الله من الأشربة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أبان ، عن أبي قلابة : إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دعوا بالشراب الطهور فيشربونه ، فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رشحا وريح مسك ، فتضمر لذلك بطونهم .

حدثنا علي بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره " شك أبو جعفر الرازي " قال : صعد جبرائيل بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى السماء السابعة ، فاستفتح ، فقيل له : من هذا ؟ فقال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حياه الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : يا جبريل من هذا الأشمط ، ومن هؤلاء البيض الوجوه ، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، وما هذه الأنهار التي اغتسلوا فيها ، فجاءوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ، أول من شمط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه ، فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم : وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا ، فتاب الله عليهم . وأما الأنهار ، فأولها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا .

التالي السابق


الخدمات العلمية