الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب الربا

                                                                                                                1584 حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                باب الربا

                                                                                                                مقصور وهو من ربا يربو ، فيكتب بالألف ، وتثنيته ربوان ، وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء لسبب الكسرة في أوله ، وغلطهم البصريون . قال العلماء : وقد كتبوه في المصحف بالواو ، وقال الفراء : إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ، ولغتهم الربو ، فعلموهم صورة الخط على لغتهم . قال : وكذا قرأها أبو سماك العدوي بالواو ، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة بسبب كسرة الراء ، وقرأ الباقون بالتفخيم لفتحة الياء ، قال : ويجوز كتبه بالألف والواو والياء ، وقال أهل اللغة : و ( الرماء ) بالميم والمد هو الربا ، وكذلك ( الربية ) بضم الراء والتخفيف لغة في الربا . وأصل الربا : الزيادة ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ، وأربى الرجل ، وأرمى عامل بالربا . وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة ، وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه ، قال الله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا والأحاديث فيه كثيرة مشهورة ، ونص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث على تحريم الربا في ستة أشياء : الذهب ، والفضة والبر والشعير والتمر والملح . فقال أهل الظاهر : لا ربا في غير هذه الستة بناء على أصلهم في نفي القياس ، قال جميع العلماء سواهم : لا يختص بالستة ، بل يتعدى إلى ما في معناها وهو ما يشاركها في العلة ، واختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة ، فقال الشافعي : العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان ، فلا يتعدى الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها ، لعدم المشاركة ، قال : والعلة في الأربعة الباقية : كونها مطعومة فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم ، وأما مالك فقال في الذهب والفضة كقول الشافعي - رضي الله عنه - وقال في الأربعة : العلة فيها كونها تدخر للقوت وتصلح له ، فعداه إلى الزبيب لأنه كالتمر ، وإلى القطنية لأنها في معنى البر والشعير . وأما أبو حنيفة فقال : العلة في الذهب والفضة الوزن ، وفي الأربعة الكيل ، فيتعدى إلى كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما ، وإلى كل مكيل كالجص والأشنان وغيرهما وقال سعيد بن المسيب وأحمد والشافعي في القديم : العلة في الأربعة [ ص: 195 ] كونها مطعومة موزونة أو مكيلة بشرط الأمرين ، فعلى هذا لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوه مما لا يكال ولا يوزن .

                                                                                                                وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا ومؤجلا ، وذلك كبيع الذهب بالحنطة ، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل .

                                                                                                                وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه ، وأحدهما مؤجل ، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب ، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة ، كالذهب بالفضة ، والحنطة بالشعير ، وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدا بيد ، كصاع حنطة بصاعي شعير ، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا ، إلا ما سنذكره إن شاء الله تعالى عن ابن عباس في تخصيص الربا بالنسيئة . قال العلماء : وإذا بيع الذهب بذهب ، أو الفضة بفضة ، سميت مراطلة ، وإذا بيعت الفضة بذهب سمي صرفا ، لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل ، والتفرق قبل القبض والتأجيل ، وقيل : من صريفهما ، وهو تصويتهما في الميزان . والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء قال العلماء : هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء ، وصحيح ومكسور ، وحلي وتبر ، وغير ذلك ، وسواء الخالص والمخلوط بغيره ، وهذا كله مجمع عليه .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تشفوا بعضها على بعض ) هو بضم التاء وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء ، أي لا تفضلوا ، والشف بكسر الشين ، ويطلق أيضا على النقصان ، فهو من الأضداد ، يقال : شف الدرهم بفتح الشين يشف بكسرها إذا زاد وإذا نقص ، وأشفه غيره يشفه .

                                                                                                                [ ص: 196 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تبيعوا منها غائبا بناجز ) المراد بالناجز الحاضر ، وبالغائب المؤجل ، وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلا ، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير ، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا ، أما إذا باع دينارا بدينار كلاهما في الذمة ، ثم أخرج كل واحد الدينار ، أو بعث من أحضر له دينارا من بيته وتقابضا في المجلس فيجوز بلا خلاف عند أصحابنا ; لأن الشرط أن ألا يتفرقا بلا قبض ، وقد حصل ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذه : ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد

                                                                                                                وأما قول القاضي عياض : اتفق العلماء على أنه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر إذا كان أحدهما مؤجلا أو غاب عن المجلس ، فليس كما قال ; فإن الشافعي وأصحابه وغيرهم متفقون على جواز الصور التي ذكرتها ، والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء يحتمل أن يكون الجمع بين هذه الألفاظ توكيدا ومبالغة في الإيضاح .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء فيه لغتان المد والقصر ، والمد أفصح وأشهر ، وأصله ( هاك ) فأبدلت المدة من الكاف ، ومعناه : خذ هذا ، ويقول صاحبه مثله ، والمدة مفتوحة ، ويقال بالكسر أيضا ، ومن قصره قال : وزنه وزن خف يقال للواحد : ( ها ) كخف ، والاثنين ( هاءا ) كخافا ، وللجمع ( هاءوا ) كخافوا ، والمؤنثة ( هاك ) ومنهم من لا يثني ولا يجمع على هذه اللغة ولا يغيرها في التأنيث ، بل يقول في الجميع : ( ها ) قال السيرافي : كأنهم جعلوها صوتا كصه ، ومن ثنى وجمع قال للمؤنثة : ( هاك وها ) لغتان . ويقال في لغة : ( هاء ) بالمد وكسر الهمزة للذكر ، والأنثى ( هاتي ) بزيادة تاء ، وأكثر أهل اللغة ينكرون ( ها ) بالقصر ، وغلط الخطابي وغيره [ ص: 197 ] المحدثين في رواية القصر ، وقال : الصواب المد والفتح ، وليست بغلط ، بل هي صحيحة كما ذكرنا وإن كانت قليلة ، قال القاضي : وفيه لغة أخرى ( هاءك ) بالمد والكاف ، قال العلماء : ومعناه : التقابض ففيه اشتراط التقابض في بيع الربوي بالربوي إذا اتفقا في علة الربا ، سواء اتفق جنسهما كذهب بذهب ، أم اختلف كذهب بفضة ، ونبه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمختلف الجنس على متفقه ، واستدل أصحاب مالك بهذا على أنه يشترط التقابض عقب العقد حتى لو أخره عن العقد وقبض في المجلس لا يصح عندهم . ومذهبنا صحة القبض في المجلس ، وإن تأخر عن العقد يوما أو أياما وأكثر ما لم يتفرقا ، وبه قال أبو حنيفة وآخرون . وليس في هذا الحديث حجة لأصحاب مالك ، وأما ما ذكره في هذا الحديث أن طلحة بن عبد الله - رضي الله عنه - أراد أن يصارف صاحب الذهب فيأخذ الذهب ويؤخر دفع الدراهم إلى مجيء الخادم ، فإنما قاله لأنه ظن جوازه كسائر البياعات ، وما كان بلغه حكم المسألة ، فأبلغه إياه إليه عمر - رضي الله عنه - فترك المصارفة .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد هذا دليل ظاهر في أن البر والشعير صنفان ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وفقهاء المحدثين [ ص: 198 ] وآخرين ، وقال مالك والليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام من المتقدمين : إنها صنف واحد ، وهو محكي عن عمر وسعيد وغيرهما من السلف - رضي الله عنهم - واتفقوا على أن الدخن صنف ، والذرة صنف والأرز صنف إلا الليث بن سعد وابن وهب فقالا : هذه الثلاثة واحد .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : فمن زاد أو ازداد فقد أربى معناه فقد فعل الربا المحرم ، فدافع الزيادة وآخذها عاصيان مربيان .

                                                                                                                [ ص: 199 ] قوله : ( فرد الناس ما أخذوا ) هذا دليل على أن البيع المذكور باطل .

                                                                                                                قوله : ( أن عبادة بن الصامت قال : لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية ) أو قال : ( وإن رغم ) يقال : رغم بكسر الغين وفتحها ، ومعناه : ذل وصار كاللاصق بالرغام ، وهو التراب ، وفي هذا الاهتمام بتبليغ السنن ونشر العلم وإن كرهه من كرهه لمعنى ، وفيه القول بالحق وإن كان المقول له كبيرا .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( يدا بيد ) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس وجوز إسماعيل بن علية التفرق عند اختلاف الجنس ، وهو محجوج بالأحاديث والإجماع ، ولعله لم يبلغه الحديث ، فلو بلغه لما خالفه .

                                                                                                                [ ص: 200 ] قوله : ( أخبرنا سليمان الربعي ) هو بفتح الراء والباء الموحدة ، منسوب إلى بني ربيعة .




                                                                                                                الخدمات العلمية