الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 417 ] 50 - باب

                                الصلاة في مواضع الإبل

                                420 430 - حدثنا صدقة بن الفضل: ثنا سليمان بن حيان: ثنا عبيد الله، عن نافع، قال: رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله

                                التالي السابق


                                سليمان بن حيان ، هو: أبو خالد الأحمر .

                                وقد خرج الشيخان هذا الحديث في " صحيحيهما " من طريقه، ومن طريق المعتمر بن سليمان - أيضا - عن عبيد الله بن عمر .

                                ورواه - أيضا - شريك ، عن عبيد الله كذلك.

                                وخالفهم ابن نمير ومحمد بن عبيد ، فروياه عن عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يفعل ذلك - ولم يرفعاه.

                                وزعم الدارقطني أنه الصحيح.

                                وتصرف الشيخين يشهد بخلاف ذلك، وأن الصحيح رفعه ; لأن من رفعه فقد زاد، وهم جماعة ثقات.

                                والحديث نص في جواز الصلاة إلى البعير.

                                قال ابن المنذر : فعل ذلك ابن عمر وأنس ، وبه قال مالك والأوزاعي .

                                وقال أبو طالب : سألت أحمد : يصلي الرجل إلى بعيره؟ قال: نعم ; النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وابن عمر .

                                وكلام أحمد هذا يدل على صحة رفع الحديث عنده، كما هي طريقة البخاري ومسلم .

                                [ ص: 418 ] وممن روي عنه الاستتار ببعيره في الصلاة : سويد بن غفلة ، والأسود بن يزيد ، وعطاء ، والقاسم ، وسالم .

                                وقال الحسن : لا بأس به.

                                قال ابن عبد البر : لا أعلم فيه خلافا.

                                ونقل البويطي ، عن الشافعي : أنه لا يصلي إلى دابة.

                                قال بعض أصحابه المتأخرين: لعل الشافعي لم يبلغه الحديث، وقد وصانا باتباع الحديث إذا صح، وقد صح هذا الحديث، ولا معارض له.

                                وتبويب البخاري يدل على أن هذا الحديث يؤخذ منه أنه يجوز الصلاة في مواضع الإبل وأعطانها، وقد سبقه إلى ذلك بعض من تقدم.

                                وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن مسائل، منها: الصلاة في أعطان الإبل، فكتب له في جوابه: وأما ما ذكرت من معاطن الإبل، فقد بلغنا أن ذلك يكره، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته، وقد كان ابن عمر ومن أدركنا من خيار أهل أرضنا يعرض أحدهم ناقته بينه وبين القبلة، فيصلي إليها، وهي تبعر وتبول.

                                وروى وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر - هو: الجعفي - عن عامر الشعبي ، عن جندب بن عامر السلمي أنه كان يصلي في أعطان الإبل ومرابض الغنم.

                                ورخص سفيان الثوري في الصلاة في أعطان الإبل، ذكره بعض المصنفين على مذهبه، وقال: رواه عنه القناد .

                                وأكثر أهل العلم على كراهة الصلاة في أعطان الإبل.

                                قال ابن المنذر : وممن روينا عنه أنه رأى الصلاة في مرابض الغنم، ولا يصلي في أعطان الإبل: جابر بن سمرة ، وعبد الله بن عمر ، والحسن ، [ ص: 419 ] ومالك ، وإسحاق ، وأبو ثور . انتهى.

                                وهو - أيضا - قول الشافعي وأحمد .

                                وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة، وقد سبق حديث جابر بن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل، والأمر بالصلاة في مرابض الغنم.

                                خرجه مسلم .

                                وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " من حديث ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل ".

                                وصححه الترمذي ، وإسناده كلهم ثقات، إلا أنه اختلف على ابن سيرين في رفعه ووقفه.

                                قال الدارقطني: كانت عادة ابن سيرين أنه ربما توقف عن رفع الحديث توقيا.

                                وخرجه الترمذي من حديث أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وذكر أنه اختلف في رفعه ووقفه - أيضا - وذكر في كتاب " العلل " عن البخاري : أن المعروف وقفه.

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب ، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها من الشياطين ". وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: " صلوا فيها ; [ ص: 420 ] فإنها بركة ".

                                قال ابن عبد البر : هو أحسن أحاديث الباب، وأكثرها تواترا.

                                وروى الحسن ، عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.

                                خرجه الإمام أحمد والنسائي .

                                وخرجه ابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " ولفظهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين ".

                                وفي رواية للإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصلوا في أعطان الإبل ; فإنها من الجن خلقت، ألا ترون عيونها وهبتها إذا نفرت، وصلوا في مرابد الغنم ; فإنها هي أقرب من الرحمة ".

                                وخرجه الشافعي بإسناد فيه ضعف، ولفظه: " إذا أدركتم الصلاة وأنتم في مراح الغنم فصلوا فيها ; فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها فصلوا ; فإنها جن من جن خلقت، ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها ".

                                وله طرق متعددة عن الحسن .

                                قال ابن عبد البر : رواه عن الحسن خمسة عشر رجلا.

                                والحسن سمع من عبد الله بن مغفل -: قاله الإمام أحمد .

                                [ ص: 421 ] وخرج مسلم حديثه عنه في " صحيحه ".

                                وخرج الإمام أحمد - بإسناد جيد - عن عقبة بن عامر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل ".

                                وخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو - مرفوعا - من رواية يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عنه - مرفوعا.

                                ويونس وثقه غير واحد.

                                لكن رواه مالك عن هشام ، عن أبيه، عن رجل من المهاجرين أنه سأل عبد الله بن عمرو - فذكره، ولم يرفعه.

                                ورواه عبدة ووكيع ، عن هشام : حدثني رجل من المهاجرين - فذكره، ولم يذكر في الإسناد: " عروة ".

                                قال مسلم في " كتاب التمييز ": وهو الصواب.

                                واختلف القائلون بالكراهة: هل تصح الصلاة في أعطان الإبل أم لا؟

                                فقال الأكثرون: تصح، وهو رواية عن أحمد ، وأنه يعيد الصلاة استحبابا.

                                والمشهور عن أحمد : أنها لا تصح، وعليه الإعادة.

                                وعنه رواية ثالثة: إن علم بالنهي لم تصح، وإلا صحت.

                                وعلله أصحاب الشافعي بأنها تنفر، فربما قطعت على المصلي صلاته.

                                وهذا ضعيف ; لوجهين:

                                أحدهما: أنه يبطل بالصلاة إلى البعير، لكن في كلام الشافعي ما يدل على كراهته.

                                والثاني: أنه ينتقض بما إذا لم تكن الإبل في أعطانها، فإن الكراهة لا [ ص: 422 ] تنتفي بذلك.

                                والمنصوص عن الشافعي : التعليل بما ورد به النص، أنها خلقت من الشياطين.

                                قال الشافعي : وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تصلوا في أعطان الإبل ; فإنها جن من جن خلقت " دليل على أنه إنما نهى عنها كما قال حين نام عن الصلاة: " اخرجوا بنا من هذا الوادي، فإنه واد به شيطان " فكره أن يصلي قرب شيطان، وكذا كره أن يصلي قرب الإبل ; لأنها خلقت من جن، لا لنجاسة موضعها.

                                وذكر أبو بكر الأثرم معنى هذا - أيضا - وأنه إنما كره الصلاة في معاطن الإبل ; لأنها خلقت من الشياطين.

                                وقد فسر ابن قتيبة خلق الإبل من الشياطين بأنها خلقت من جنس خلقت منه الشياطين. قال: وورد في حديث آخر أنها خلقت من أعيان الشياطين، يريد من نواحيها وجوانبها. قال: ولم تزل العرب تنسب جنسا من الإبل إلى الحوش ، فتقول: ناقة حوشية، وإبل حوشية، وهي أنفر الإبل وأصعبها، ويزعمون أن للجن إبلا ببلاد الحوش ، وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت منها هذه الحوشية، فعلى هذا يجوز أن يراد أنها خلقت من نتاج نعم الجن، لا من الجن نفسها. انتهى.

                                ويجوز أن يكون خلقت في أصلها من نار، كما خلقت الجن من نار، ثم توالدت كما توالدت الجن. والله تعالى أعلم.

                                وزعم الخطابي أنها نسبت إلى الشياطين؛ لما فيها من النفار والشرود. قال: والعرب تسمي كل مارد شيطانا.

                                [ ص: 423 ] وقال أبو عبيد : المراد: أنها في أخلاقها وطبائعها تشبه الشياطين.

                                وقد ورد في حديث آخر: " إن على ذروة كل بعير شيطانا " مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر على بعيره النوافل، وهذا مما يستدل به من يقول: إن النهي عن الصلاة في الأعطان لا يمنع صحة الصلاة.

                                واختلفوا في تفسير أعطان الإبل.

                                فقال الشافعي : العطن: قرب البئر التي يستقى منها، وتكون البئر في موضع، والحوض قريبا منها، فيصب فيه فيملأ، فتسقى الإبل ثم تنحى عن البئر شيئا حتى تجد الواردة موضعا، فذلك العطن. قال: وليس العطن مراحها الذي تبيت فيه.

                                وكره أصحابه الصلاة في مأواها بالليل دون كراهة العطن.

                                وقال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: العطن: الذي تقيم في المكان تأوي إليه.

                                وقال - في رواية ابنه صالح -: يعيد الصلاة إذا صلى في الموضع الذي تأوي إليه.

                                وقال أبو بكر الخلال : العطن: الذي تأوي إليه بالليل والنهار.

                                وقال أصحاب مالك : لا يصلي في أعطان الإبل التي في المناهل.

                                وهذا يشبه قول الشافعي ، وهو وجه لأصحابنا - أيضا - وأن العطن: هو [ ص: 424 ] موضع اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، وبذلك فسره كثير من أهل اللغة.

                                وبكل حال: فليس الموضع الذي تنزله في سيرها عطنا لها، ولا تكره الصلاة فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعرض بعيره ويصلي إليه في أسفاره، ولم يكن يدخل إلى أعطان الإبل فيعرض البعير ويصلي إليه فيها، فلا تعارض حينئذ بين صلاته إلى بعيره وبين نهيه عن الصلاة في أعطان الإبل، كما توهمه البخاري ومن وافقه. والله أعلم.

                                وأما مواضع البقر فغير منهي عن الصلاة فيه عند أكثر العلماء، ومنهم: عطاء ومالك وابن المنذر ، واستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد ".

                                وقد ورد فيه حديثان:

                                أحدهما: خرجه ابن وهب في " مسنده " عن سعيد بن أبي أيوب ، عمن حدثه، عن عبد الله بن مغفل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلى في مراح الغنم والبقر .

                                وفي إسناده جهالة.

                                والثاني: من حديث ابن لهيعة ، عن حيي بن عبد الله ، أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابد الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر .

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وهذا إسناد ضعيف. والله أعلم.



                                الخدمات العلمية