الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها [ 2 ] وقال الإنسان ما لها [ 3 ] يومئذ تحدث أخبارها [ 4 ] بأن ربك أوحى لها [ 5 ] يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم [ 6 ] .

افتتاح الكلام بظرف الزمان مع إطالة الجمل المضاف إليها الظرف تشويق إلى متعلق الظرف ، إذ المقصود ليس توقيت صدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ، بل الإخبار عن وقوع ذلك وهو البعث ، ثم الجزاء ، وفي ذلك تنزيل وقوع البعث منزلة الشيء المحقق المفروغ منه بحيث لا يهم الناس إلا معرفة وقته وأشراطه ، فيكون التوقيت كناية عن تحقيق وقوع الموقت .

ومعنى زلزلت : حركت تحريكا شديدا حتى يخيل للناس أنها خرجت من حيزها ; لأن فعل زلزل مأخوذ من الزلل ، وهو زلق الرجلين ، فلما عنوا شدة الزلل ضاعفوا الفعل للدلالة بالتضعيف على شدة الفعل ، كما قالوا : كبكبه ، أي : كبه ولملم بالمكان من اللم .

والزلزال : بكسر الزاي الأولى مصدر زلزل ، وأما الزلزال بفتح الزاي فهو اسم [ ص: 491 ] مصدر كالوسواس والقلقال . وتقدم الكلام على الزلزال في سورة الحج .

وإنما بني فعل ( زلزلت ) بصيغة النائب عن الفاعل ؛ لأنه معلوم فاعله وهو الله تعالى .

وانتصب زلزالها على المفعول المطلق المؤكد لفعله إشارة إلى هول ذلك الزلزال ، فالمعنى : إذا زلزلت الأرض زلزالا .

وأضيف ( زلزالها ) إلى ضمير الأرض لإفادة تمكنه منها وتكرره حتى كأنه عرف بنسبته إليها لكثرة اتصاله بها ، كقول النابغة :


أسائلتي سفاهتها وجهلا على الهجران أخت بني شهاب



أي : سفاهة لها ، أي : هي معروفة بها ، وقول أبي خالد القناني :


والله أسماك سمى مباركا     آثرك الله به إيثاركا



يريد إيثارا عرفت به واختصصت به . وفي كتب السيرة أن من كلام خطر بن مالك الكاهن يذكر شيطانه حين رجم ( بلبله بلباله ) أي : بلبال متمكن منه . وإعادة لفظ الأرض في قوله : وأخرجت الأرض أثقالها إظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل .

والأثقال : جمع ثقل بكسر المثلثة وسكون القاف وهو المتاع الثقيل ، ويطلق على المتاع النفيس .

وإخراج الأرض أثقالها ناشئ عن انشقاق سطحها ، فتقذف ما فيها من معادن ومياه وصخر .

وذلك من تكرر الانفجارات الناشئة عن اضطراب داخل طبقاتها وانقلاب أعاليها أسافل والعكس .

والتعريف في ( الإنسان ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، أي : وقال الناس ما لها ، أي : الناس الذين هم أحياء ففزعوا ، وقال بعضهم لبعض ، أو قال كل أحد في نفسه حتى استوى في ذلك الجبان والشجاع ، والطائش والحكيم ، لأنه زلزال تجاوز الحد الذي يصبر على مثله الصبور .

[ ص: 492 ] وقول ( ما لها ) استفهام عن الشيء الذي ثبت للأرض ولزمها ; لأن اللام تفيد الاختصاص ، أي : ما للأرض في هذا الزلزال ، أو ما لها زلزلت هذا الزلزال ، أي : ماذا ستكون عاقبته . نزلت الأرض منزلة قاصد مريد يتساءل الناس عن قصده من فعله ؛ حيث لم يتبين غرضه منه ، وإنما يقع مثل هذا الاستفهام غالبا مردفا بما يتعلق بالاستقرار الذي في الخبر مثل أن يقال : ما له يفعل كذا ، أو ما له في فعل كذا ، أو ما له وفلانا ، أي : معه ، فلذلك وجب أن يكون هنا مقدر ، أي : ما لها زلزلت ، أو ما لها في هذا الزلزال ، أو ما لها وإخراج أثقالها .

وجملة يومئذ تحدث أخبارها إلخ جواب ( إذا ) باعتبار ما أبدل منها من قوله : يومئذ يصدر الناس فيومئذ بدل من يومئذ تحدث أخبارها .

واليوم يطلق على النهار مع ليله ، فيكون الزلزال نهارا وتتبعه حوادث في الليل مع انكدار النجوم وانتشارها ، وقد يراد باليوم مطلق الزمان .

و تحدث أخبارها هو العامل في ( يومئذ ) وفي البدل ، والتقدير : يوم إذ تزلزل الأرض وتخرج أثقالها ، ويقول الناس : ما لها تحدث أخبارها إلخ .

و ( أخبارها ) مفعول ثان لفعل ( تحدث ) ؛ لأنه مما ألحق بظن لإفادة الخبر علما ، وحذف مفعوله الأول لظهوره ، أي : تحدث الإنسان ; لأن الغرض من الكلام هو إخبارها لما فيه من التهويل .

وضمير ( تحدث ) عائد إلى ( الأرض ) .

والتحديث حقيقته : أن يصدر كلام بخبر عن حدث . وورد في حديث الترمذي عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل يوم كذا وكذا ، فهذه أخبارها اهـ .

وجمع ( أخبارها ) باعتبار تعدد دلالتها على عدد القائلين ، ( ما لها ) وإنما هو خبر واحد وهو المبين بقوله : بأن ربك أوحى لها .

[ ص: 493 ] وانتصب ( أخبارها ) على نزع الخافض وهو باء تعدية فعل ( تحدث ) .

وقوله : بأن ربك أوحى لها يجوز أن يتعلق بفعل ( تحدث ) والباء للسببية ، أي : تحدث أخبارها بسبب أن الله أمرها أن تحدث أخبارها .

ويجوز أن يكون بدلا من ( أخبارها ) وأظهرت الباء في البدل لتوكيد تعدية فعل ( تحدث ) إليه ، وعلى كلا الوجهين قد أجملت أخبارها وبينها الحديث السابق .

وأطلق الوحي على أمر التكوين ، أي : أوجد فيها أسباب إخراج أثقالها فكأنه أسر إليها بكلام ، كقوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا الآيات .

وعدي فعل ( أوحى ) باللام لتضمين ( أوحى ) معنى قال ، كقوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وإلا فإن حق ( أوحى ) أن يتعدى بحرف ( إلى ) .

والقول المضمن هو قول التكوين قال تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون .

وإنما عدل عن فعل : قال لها إلى فعل أوحى لها ؛ لأنه حكاية عن تكوين لا عن قول لفظي .

وقوله : يومئذ يصدر الناس أشتاتا بدل من جملة يومئذ تحدث أخبارها ، والجواب هو فعل و يصدر الناس ، وقوله : ( يومئذ ) يتعلق به ، وقدم على متعلقه للاهتمام . وهذا الجواب هو المقصود من الكلام ; لأن الكلام مسوق لإثبات الحشر والتذكير به والتحذير من أهواله ، فإنه عند حصوله يعلم الناس أن الزلزال كان إنذارا بهذا الحشر .

وحقيقة يصدر الناس الخروج من محل اجتماعهم ، يقال : صدر عن المكان ، إذا تركه وخرج منه صدورا وصدرا بالتحريك . ومنه الصدر عن الماء بعد الورد ، فأطلق هنا فعل ( يصدر ) على خروج الناس إلى الحشر جماعات ، أو انصرافهم من المحشر إلى مأواهم من الجنة أو النار ، تشبيها بانصراف الناس عن الماء بعد الورد .

[ ص: 494 ] وأشتات : جمع شت بفتح الشين وتشديد الفوقية وهو المتفرق ، والمراد : يصدرون متفرقين جماعات كل إلى جهة بحسب أعمالهم وما عين لهم من منازلهم .

وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله : ليروا أعمالهم ، أي : يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا ، فيقال لكل جماعة : انظروا أعمالكم ، أو انظروا مآلكم .

وبني فعل ( ليروا ) إلى النائب ; لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعيين من يريهم إياها . وقد أجمع القراء على ضم التحتية .

فالرؤية مستعملة في رؤية البصر والمرئي هو منازل الجزاء ، ويجوز أن تكون الرؤية مستعملة في العلم بجزاء الأعمال ، فإن الأعمال لا ترى ، ولكن يظهر لأهلها جزاؤها .

التالي السابق


الخدمات العلمية