الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 101 ] وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .

عطف على جملة وتلك الأيام نداولها بين الناس ، فمضمون هذه علة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله فقد مس القوم قرح مثله وعلم الله بأنهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسسهم القرح .

فإن كان المراد من الذين آمنوا هنا معنى الذين آمنوا إيمانا راسخا كاملا فقد صار المعنى : أن علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مس القرح إياهم ، وهو معنى غير مستقيم ، فلذلك اختلف المفسرون في المراد من هذا التعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العلم ، وقد تقرر في أصول الدين أن الفلاسفة قالوا : إن الله عالم بالكليات بأسرها ، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه ، علما كالعلم المبحوث عنه في الفلسفة لأن ذلك العلم صفة كمال ، وأنه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علما بوجه كلي . ومعنى ذلك أنه يعلمها من حيث إنها غير متعلقة بزمان ، مثاله : أن يعلم أن القمر جسم يوجد في وقت تكوينه ، وأن صفته تكون كذا وكذا ، وأن عوارضه النورانية المكتسبة من الشمس والخسوف والسير في أمد كذا . أما حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه ، وكذلك حصول عوارضه ، فغير معلوم لله تعالى ، قالوا : لأن الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغير علمه فيقتضي ذلك تغير القديم ، أو لزم جهل العالم ، مثاله : أنه إذا علم أن القمر سيخسف ساعة كذا علما أزليا ، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إما أن يزول ذلك العلم فيلزم تغير العلم السابق فيلزم من ذلك تغير الذات الموصوفة به من صفة إلى صفة ، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصفة يستلزم حدوث الموصوف ، وإما أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلم جهلا ، لأن الله إنما علم أن القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل . ولأجل هذا قالوا : إن علم الله تعالى غير زماني . وقال المسلمون كلهم : إن الله يعلم الكليات والجزئيات قبل حصولها ، وعند حصولها . وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من [ ص: 102 ] قبيل الإضافة أي نسبة بين العالم والمعلوم ، والإضافات اعتباريات ، والاعتباريات عدميات ، أو هو من قبيل الصفة ذات الإضافة : أي صفة وجودية لها تعلق ، أي نسبة بينها وبين معلومها . فإن كان العلم إضافة فتغيرها لا يستلزم تغير موصوفها وهو العالم ، ونظروا ذلك بالقديم يوصف بأنه قبل الحادث ومعه وبعده ، من غير تغير في ذات القديم ، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلق ، فالتغير يعتري تعلقها ولا تتغير الصفة فضلا عن تغير الموصوف ، فعلم الله بأن القمر سيخسف ، وعلمه بأنه خاسف الآن ، وعلمه بأنه كان خاسفا بالأمس ، علم واحد لا يتغير موصوفه ، وإن تغيرت الصفة ، أو تغير متعلقها على الوجهين ، إلا أن سلف أهل السنة والمعتزلة أبوا التصريح بتغير التعلق ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث ، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة ، نظرا لكون صفة العلم لا تتجاوز غير ذات العالم تجاوزا محسوسا . فلذلك قال سلفهم : إن الله يعلم في الأزل أن القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا ، فعند خسوف القمر كذلك علم الله أنه خسف بذلك العلم الأول لأن ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل ، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال ، قالوا : ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أن القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثم عند خسوفه نعلم أنه تحقق خسوفه بعلم جديد ، لأن احتياجنا لعلم متجدد إنما هو لطريان الغفلة عن الأول . وقال بعض المعتزلة مثل جهم بن صفوان وهشام بن الحكم : إن الله عالم في الأزل بالكليات والحقائق ، وأما علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأن هذا العلم من التصديقات ، ويلزمه عدم سبق العلم .

وقال أبو الحسين البصري من المعتزلة ، رادا على السلف : لا يجوز أن يكون علم الله بأن القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنه خسف لأمور ثلاثة : الأول التغاير بينهما في الحقيقة لأن حقيقة كونه سيقع غير حقيقة كونه وقع ، فالعلم بأحدهما يغاير العلم بالآخر ، لأن اختلاف المتعلقين يستدعي اختلاف [ ص: 103 ] العالم بهما . الثاني التغاير بينهما في الشرط فإن شرط العلم بكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع ، وشرط العلم بكونه وقع الوقوع ، فلو كان العلمان شيئا واحدا لم يختلف شرطاهما . الثالث أنه يمكن العلم بأنه وقع الجهل بأنه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم ( هكذا عبر أبو الحسين أي الأمر الغير المعلوم مغاير للمعلوم ) ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التغير في علم الله تعالى بالمتغيرات ، وأن ذاته تقتضي اتصافه بكونه عالما بالمعلومات التي ستقع ، بشرط وقوعها ، فيحدث العلم بأنها وجدت عند وجودها ، ويزول عند زوالها ، ويحصل علم آخر ، وهذا عين مذهب جهم وهشام . ورد عليه بأنه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأزل عالما بأحوال الحوادث ، وهذا تجهيل . وأجاب عنه عبد الحكيم في حاشية المواقف بأن أبا الحسين ذهب إلى أنه تعالى يعلم في الأزل أن الحادث سيقع على الوصف الفلاني ، فلا جهل فيه ، وأن عدم شهوده للحوادث قبل حدوثها ليس بجهل ، إذ هي معدومة في الواقع ، بل لو علمها تعالى شهوديا حين عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل ، لأن شهود المعدوم مخالف للواقع ، فالعلم المتغير الحادث هو العلم الشهودي .

فالحاصل أن ثمة علمين : أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط ، والآخر حادث وهو العلوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست من علمائنا وعلماء المعتزلة ، إطلاق إثبات تعلق حادث لعلم الله تعالى بالحوادث . وقد ذكر ذلك الشيخ عبد الحكيم في الرسالة الخاقانية التي جعلها لتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل ، بل عبر عنه بقيل ، وقد رأيت التفتزاني جرى على ذلك في حاشية الكشاف في هذه الآية فلعل الشيخ الحكيم نسي أن ينسبه .

وتأويل الآية على اختلاف المذاهب : فأما الذين أبوا إطلاق الحدوث على تعلق العلم فقالوا في قوله وليعلم الله الذين آمنوا أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميزه على طريقة الكناية لأنها كإثبات الشيء بالبرهان ، [ ص: 104 ] وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي :


وأقبلت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها

أي ليظهر الجبان والشجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه .

ومنهم من جعل قوله وليعلم الله تمثيلا أي فعل ذلك فعل من يريد أن يعلم وإليه مال في الكشاف ، ومنهم من قال : العلة هي تعلق علم الله بالحادث وهو تعلق حادث ، أي ليعلم الله الذين آمنوا موجودين . قاله البيضاوي والتفتزاني في حاشية الكشاف . وإن كان المراد من قوله الذين آمنوا ظاهره أي ليعلم من اتصف بالإيمان ، تعين التأويل في هذه الآية لا لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى ، بل لأن علم الله بالمؤمنين من أهل أحد حاصل من قبل أن يمسهم القرح ، فقال الزجاج : أراد العلم الذي يترتب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان ، وعدم تزلزلهم في حالة الشدة ، وأشار التفتزاني إلى أن تأويل صاحب الكشاف ذلك بأنه وارد مورد التمثيل ، ناظرا إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلا من قبل ، لا لأجل التحرز عن لزوم حدوث العلم .

وقوله ويتخذ منكم شهداء عطف على العلة السابقة ، وجعل القتل في ذلك اليوم الذي هو سبب اتخاذ القتلى شهداء علة من علل الهزيمة ، لأن كثرة القتلى هي التي أوقعت الهزيمة .

والشهداء هم الذين قتلوا يوم أحد ، وعبر عن تقدير الشهادة بالاتخاذ لأن الشهادة فضيلة من الله ، واقتراب من رضوانه ، ولذلك قوبل بقوله والله لا يحب الظالمين أي الكافرين فهو في جانب الكفار ، أي فقتلاكم في الجنة ، وقتلاهم في النار ، فهو كقوله قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين .

والتمحيص : التنقية والتخلص من العيوب . والمحق : الإهلاك . وقد جعل الله تعالى مس القرح المؤمنين والكفار فاعلا فعلا واحدا : هو فضيلة في جانب المؤمنين ، ورزية في جانب الكافرين ، فجعله للمؤمنين تمحيصا وزيادة في [ ص: 105 ] تزكية أنفسهم ، واعتبارا بمواعظ الله تعالى ، وجعله للكافرين هلاكا ، لأن ما أصابهم في بدر تناسوه ، وما انتصروه في أحد يزيدهم ثقة بأنفسهم فيتواكلون; يظنون المسلمين قد ذهب بأسهم ، على أن المؤمنين في ازدياد ، فلا ينقصهم من قتل منهم ، والكفار في تناقص فمن ذهب منهم نفد . وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النفوس كمالا وبعضها نقصا قال أبو الطيب :


فحب الجبان العيش أورده التقى     وحب الشجاع العيش أورده الحربا
ويختلف القصدان والفعل واحد     إلى أن نرى إحسان هذا لنا ذنبا

وقال تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقال وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وهذا من بديع تقدير الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية