الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة .

استئناف بعد حرف الإبطال ، وهو استئناف بياني ; لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإبطال يثير في خاطر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن ، أو يثير [ ص: 115 ] في نفسه مخافة أن يكون قصر في شيء من واجب التبليغ .

وضمير ( إنها ) عائدة إلى الدعوة التي تضمنها قوله : فأنت له تصدى .

ويجوز أن يكون المعنى : أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاما ، وإنما يعاتب الحبيب حبيبه .

ويجوز عندي أن يكون كلا إنها تذكرة استئنافا ابتدائيا موجها إلى من كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يدعوه قبيل نزول السورة فإنه كان يعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومن معه ، وكانوا يستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث ، فتكون ( كلا ) إبطالا لما نعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحو ذلك .

فيكون ضمير ( إنها تذكرة ) عائدا إلى الآيات التي قرأها النبيء - صلى الله عليه وسلم - عليهم في ذلك المجلس ، ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن .

ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى عقبه قتل الإنسان ما أكفره الآيات ؛ حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث .

فكان تأنيث الضمير نكتة خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني .

والضمير الظاهر في قوله ( ذكره ) : يجوز أن يعود إلى ( تذكرة ) ; لأن ماصدقها القرآن الذي كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يعرضه على صناديد قريش قبيل نزول هذه السورة ، أي : فمن شاء ذكر القرآن وعمل به .

ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى ، فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذكر معاده في الكلام كثير في القرآن ; لأن شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن ، أي : فمن شاء ذكر الله وتوخى مرضاته .

والذكر على كلا الوجهين : الذكر بالقلب ، وهو توخي الوقوف عند الأمر والنهي . وتعدية فعل ( ذكر ) إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام .

[ ص: 116 ] والذي اقتضى الإتيان بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاة الفواصل ، وهي : ( تذكره ، مطهره ، سفره ، برره ) .

وجملة فمن شاء ذكره معترضة بين قوله : ( تذكرة ) وقوله : ( في صحف ) .

والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة ( إنها تذكرة ) فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائما ، فالفاء من جملة الاعتراض ، أي : هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده ، أي : يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك .

وفي قوله : فمن شاء ذكره تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة ، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ . وهذا كقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم وقوله : وإنه لتذكرة للمتقين ونحوه كثير ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا في سورة الإنسان .

والتذكرة : اسم لما يتذكر به الشيء إذا نسي . قال الراغب : وهي أعم من الدلالة والأمارة ، قال تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين . وتقدم نظيره في سورة المدثر .

وكل من ( تذكرة ) و ( ذكره ) هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الذال في الغالب ، أي : فمن شاء عمل به ولا ينسه .

والصحف : جمع صحيفة ، وهي قطعة من أديم أو ورق أو خرقة يكتب فيها الكتاب ، وقياس جمعها صحائف ، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس ، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إلا صحف ، وسيأتي في سورة الأعلى ، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه .

و ( مطهرة ) اسم مفعول من طهره إذا نظفه . والمراد هنا : الطهارة المجازية وهي الشرف ، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب ( مكرمة ، مرفوعة ، مطهرة ) محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها [ ص: 117 ] كما قال تعالى : قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم . وتشريفها كما قال تعالى : إن كتاب الأبرار لفي عليين وقدسية معانيها كما قال تعالى : ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وكان المراد بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيس ، وأكتاف ، ولخاف ، وجريد .

فقد روي أن كتاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس ، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليبا ويكون حرف ( في ) للظرفية الحقيقية ، ويكون المراد بالسفرة جمع سافر ، أي : كاتب ، وروي عن ابن عباس . قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر - بكسر السين - وللكاتب سافر ; لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه ، يقال : أسفر الصبح ، إذا أضاء وقاله الفراء .

ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف إبراهيم - عليه السلام - ، فتكون هذه الأوصاف تأييدا للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به . ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين : أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم ، كما قال تعالى : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى وكما قال : وإنه لفي زبر الأولين وكما قال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى .

ويجوز أن يراد بالصحف صحف مجازية ، أي : ذوات موجودة قدسية يتلقى جبريل - عليه السلام - منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها . ومعنى ( مكرمة ) عناية الله بها ، ومعنى ( مرفوعة ) أنها من العالم العلوي ، ومعنى ( مطهرة ) مقدسة مباركة ، أي : هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية .

وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف ، " فسفرة " يجوز أن يكون جمع سافر ، مثل كاتب وكتبة ، ويجوز أن يكون اسم جمع سفير ، وهو المرسل في أمر [ ص: 118 ] مهم ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، وقياس جمعه سفراء وتكون ( في ) للظرفية المجازية ، أي : المماثلة في المعاني .

وتأتي وجوه مناسبة في معنى ( سفرة ) ، فالمناسب للوجه الأول أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أن يكون المراد قراء القرآن ، وبه فسر قتادة وقال : هم بالنبطية القراء ، وقال غيرهم : الوراقون باللغة العبرانية .

وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرب كما في الإتقان عن ابن أبي حاتم ، وقد أغفلها السيوطي فيما استدركه على ابن السبكي ، وابن حجر في نظميهما في المعرب في القرآن أو قصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها .

والمناسب للوجه الثاني : أن يكون محمله الرسل .

والمناسب للوجه الثالث أن يكون محمله الملائكة ; لأنهم سفراء بين الله ورسله .

والمراد بأيديهم : حفظهم إياه إلى تبليغه ، فمثل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعهود ، وإما أن يراد : الرسل الذين كانت بأيديهم كتبهم ، مثل : موسى وعيسى عليهما السلام .

وإما أن يراد كتاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ، وعمر ، ، وعثمان ، ، وعلي ، ، وعامر بن فهيرة .

وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه ، مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عثوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد .

وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم ; لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته ، قال تعالى : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتو العلم فهذا معنى [ ص: 119 ] السفرة . وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإسلام في الأمم ، وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة ( سفرة ) من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام .

ووصف ( كرام ) مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى : كراما كاتبين .

ووصف البررة ورد صفة للملائكة في الحديث الصحيح قوله الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة .

والبررة : جمع بر ، وهو الموصوف بكثرة البرور . وأصل بر مصدر بر يبر من باب فرح ، ومصدره كالفرح ، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عدل وقد اختص البررة بجمع بر ولا يكون جمع بار .

والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكة والأبرار الآدميون . قال الراغب : لأن بررة أبلغ من أبرار إذ هو جمع بر ، وأبرار جمع بار ، وبر أبلغ من بار ، كما أن عدلا أبلغ من عادل .

وهذا تنويه بشأن القرآن ; لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثره في التذكير والإرشاد ، وبرفعة مكانته ، وقدس مصدره ، وكرم قراره ، وطهارته ، وفضائل حملته ومبلغيه ، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية .

التالي السابق


الخدمات العلمية