الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يقولون أإنا لمردودون في الحافرة إذا كنا عظاما نخرة .

استئناف ؛ إما ابتدائي بعد جملة القسم وجوابه ، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة .

وإما استئناف بياني ; لأن القسم وما بعده من الوعيد يثير سؤالا في نفس [ ص: 69 ] السامع عن الداعي لهذا القسم ، فأجيب بـ يقولون أإنا لمردودون في الحافرة ، أي : منكرون البعث ، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأن التحدث عن غير حاضر .

وضمير ( يقولون ) عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث .

والمساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم .

ويجوز أن يكون الكلام مسوقا إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف .

وحكي مقالهم بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه .

وللإشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا ، كقوله تعالى : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط .

وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى .

وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير ( يقولون ) بعائد إلى ( قلوب ) من قوله تعالى : قلوب يومئذ واجفة .

وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام ; إظهارا لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه . والمقصود : التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة .

وجعل الاستفهام التعجبي داخلا على جملة اسمية مؤكدة ب ( إن ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإفادة أنهم أتوا بما يفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به ، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلا عن تحقيقه والإيقان به .

والمردود : الشيء المرجع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورد ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقايل ، أي : لمرجعون إلى الحياة ، أي : إنا لمبعوثون من قبورنا .

[ ص: 70 ] والمراد بـ ( الحافرة ) : الحالة القديمة ، يعني : الحياة .

وإطلاقات ( الحافرة ) كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز ، والأظهر ما في الكشاف : يقال : رجع فلان إلى حافرته ، أي : في طريقه التي جاء فيها فحفرها ، أي : أثر فيها بمشيه فيها ، جعل أثر قدميه حفرا أي لأن قدميه جعلتا فيها أثرا مثل الحفر ، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر ، وجوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم : عيشة راضية ، أي : راض عائشها ، ويقولون : رجع إلى الحافرة ، تمثيلا لمن كان في حالة ففارقها ، ثم رجع إليها فصار : رجع في الحافرة ، ورد إلى الحافرة ، جاريا مجرى المثل .

ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطان حسبما ظن ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكتاب :


أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار



ومن الأمثال قولهم : " النقد عند الحافرة " . أي : إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرهان .

يريد : أرجوعا إلى حافرة .

وظرف ( إذا ) في قوله : ( إذا كنا عظاما نخرة ) وهو مناط التعجب وادعاء الاستحالة ، أي : إذا صرنا عظاما بالية فكيف نرجع أحياء .

و ( إذا ) متعلق ب ( مردودون ) .

و ( نخرة ) صفة مشتقة من قولهم : نخر العظم ، إذا بلي فصار فارغ الوسط كالقصبة . وتأنيث نخرة ; لأن موصوفه جمع تكسير ، فوصفه يجري على التأنيث في الاستعمال .

هي همزة ( إذا ) ، وقرأه بقية العشرة ( أإذا ) بهمزتين ؛ إحداهما مفتوحة همزة الاستفهام والثانية مكسورة هي همزة ( إذا ) .

وهذا الاستفهام إنكاري مؤكد للاستفهام الأول للدلالة على أن هذه الحالة [ ص: 71 ] جديرة بزيادة إنكار الإرجاع إلى الحياة بعد الموت ، فهما إنكاران لإظهار شدة إحالته .

وقرأ الجمهور ( نخرة ) بدون ألف بعد النون . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب ، وخلف ( ناخرة ) بالألف .

التالي السابق


الخدمات العلمية