الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - .

والمناسبة لذلك التخلص إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا إذ قال له وذرني والمكذبين إلى قوله ( وعذابا أليما ) .

فالكلام استئناف ابتدائي ، ولا يعد هذا الخطاب من الالتفات ؛ لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله .

فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين : مذهب الجمهور ومذهب السكاكي .

والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين .

وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة .

[ ص: 273 ] واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى - عليه السلام - ، ؛ لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله ، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون وقد قال أهل مكة لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا . وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفرا .

وأكد الخبر بـ ( إن ) ؛ لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا .

ونكر رسولا ؛ لأنهم يعلمون المعني به في هذا الكلام ، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو صفة الإرسال .

وأدمج في التنظير والتهديد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكونه شاهدا عليهم .

والمراد بالشهادة هنا : الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس ، وبذلك يكون وصف ( شاهدا ) موافقا لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال ، أي : هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإبلاغ .

وأما شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربهم ، وذلك قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح ، وقد تقدم في سورة البقرة .

وتنكير ( رسولا ) المرسل إلى فرعون ؛ لأن الاعتبار بالإرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإرسال في قوله كما أرسلنا إلى فرعون إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولا .

وتفريع فعصى فرعون الرسول إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحل بالمخاطبين لما عصوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حل بفرعون .

[ ص: 274 ] وفي إظهار اسم فرعون في قوله ( فعصى فرعون ) دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول .

ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أول مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري ، أي : الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى .

والأخذ مستعمل في الإهلاك مجازا ؛ لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئا من موضعه وجعله عنده .

والوبيل : فعيل صفة مشبهة من وبل المكان ، إذا وخم هواؤه أو مرعى كلئه ، وقال زهير :


إلى كلإ مستوبل متوخم

وهو هنا مستعار لسيء العاقبة شديد السوء ، وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية