الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 157 ] البحث الحادي عشر : في الأخبار .

                        وفيه أنواع :

                        النوع الأول : في معنى الخبر لغة واصطلاحا :

                        أما معناه لغة : فهو مشتق من الخبار ، وهي الأرض الرخوة ; لأن الخبر يثير الفائدة ، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار ، إذا قرعها الحافر ونحوه ، وهو نوع مخصوص من القول ، وقسم من الكلام اللساني ، وقد يستعمل في غير القول ، كقول الشاعر :


                        تخبرك العينان ما القلب كاتم

                        وقول المعري :


                        نبي من الغربان ليس على شرع     يخبرنا أن الشعوب إلى صدع

                        ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي ; لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول .

                        وأما معناه اصطلاحا : فقال الرازي في المحصول : ذكروا في حده أمورا ثلاثة .

                        الأول : أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب .

                        والثاني : أنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب .

                        والثالث : ما ذكره أبو الحسين البصري أنه كلام مفيد بنفسه إضافة أمر من [ ص: 158 ] الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا ، قال : واحترزنا بقولنا : بنفسه عن الأمر ، فإنه يفيد وجوب الفعل ، لكن لا بنفسه ; لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل ، والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ، ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك ، وكذلك القول في دلالة النهي على قبح الفعل .

                        قال الرازي : واعلم أن هذه التعريفات دورية ، أما الأول ، فلأن الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر ، والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها ، فإذا لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر ، فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور .

                        وأجيب عن هذا : بمنع كونهما لا يعرفان إلا بالخبر ، بل هما ضروريان .

                        ثم قال : واعترضوا عليه أيضا في ثلاثة أوجه :

                        الأول : أن كلمة أو للترديد ، وهو ينافي التعريف ، ولا يمكن إسقاطها هاهنا ; لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا .

                        والثاني : أن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا التعريف .

                        والثالث : من قال : محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومسيلمة صادقان ، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب .

                        ويمكن أن يجاب عن الأول : بأن المعروف لماهية الخبر أمر واحد ، وهو إمكان تطرق هذين الوصفين إليه ، وذلك لا ترديد فيه .

                        وعن الثاني : أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه ، وخبر الله تعالى كذلك ; لأنه صدق .

                        وعن الثالث : بأن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران ، وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا ; لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإضافته إلى مسيلمة ، وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب ، سلمنا أنه خبر واحد ، لكنه كاذب ؛ لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معا ، وليس الأمر كذلك فكان كاذبا لا محالة .

                        وأما التعريف الثاني : فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن كون الخبر صدقا أو كذبا ، فقولنا : الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب ، جار مجرى قولنا : الخبر هو الذي [ ص: 159 ] يحتمل الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب ، فيكون هذا تعريفا للخبر بالخبر ، وبالصدق والكذب ، والأول هو تعريف الشيء بنفسه ، والثاني تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به .

                        وأما التعريف الثالث : فالاعتراض عليه من ثلاثة وجوه :

                        الأول : أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا : السواد موجود ، فهذا خبر مع أنه لا يفيد إضافة الشيء إلى شيء آخر .

                        والثاني : أنا إذا قلنا : الحيوان الناطق يمشي ، فقولنا : الحيوان الناطق يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان ، مع أنه ليس بخبر ; لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة .

                        والثالث : أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور ; لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشيء ، والإثبات هو الإخبار عن وجوده ، فتعريف الخبر بهما دور .

                        قال الرازي وإذا بطلت هذه التعريفات ، فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم بدليلين :

                        الأول : أن كل أحد يعلم بالضرورة إما أنه موجود وإما أنه ليس بمعدوم ، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا ومعدوما ، ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص ، والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء ، فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفا على الاكتساب ; لكان تصور الخبر الخاص أولى بأن يكون كذلك ، فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ، ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرنا .

                        الثاني : أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ، ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا لم يكن الأمر كذلك .

                        فإن قلت : الخبر نوع من أنواع الألفاظ ، وأنواع الألفاظ ليست تصوراتها بديهية ، فكيف قلت : إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا ؟

                        قلت : حكم الذهن بين أمرين : بأن أحدهما له الآخر ، وليس له الآخر معقول واحد ، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل واحد يدرك من نفسه ويجد تفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية ، من ألمه ولذته ، وجوعه وعطشه .

                        وإذا ثبت هذا فنقول : إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني ، فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل ، وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالإشكال غير وارد أيضا ; لأن [ ص: 160 ] مطلق اللفظ الدال على المعنى بديهي التصور انتهى .

                        ويجاب عنه : بأن المراد اللفظ الدال والإشكال وارد ، ولا نسلم أن مطلق اللفظ الدال بديهي التصور ، وقد أجيب عما ذكره بأن كون العلم ضروريا كيفية لحصوله ، وأنه يقبل الاستدلال عليه ، والذي لا يقبله هو نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة ، فإنه يمتنع أن يكون حاصلا بالضرورة والاستدلال ، لتنافيهما .

                        وأجيب أيضا : بأن المعلوم ضرورة ، إنما هو نسبة الوجود إليه إثباتا ، وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر ، فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية .

                        وقيل : إن الخبر لا يحد لتعسره ، وقد تقدم بيانه في تعريف العلم .

                        وقيل : الأولى في حد الخبر أن يقال : هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية ، والمراد بالخارج : ما هو خارج عن كلام النفس ، المدلول عليه بذلك اللفظ ، فلا يرد عليه ( قم ) ; لأن مدلوله الطلب نفسه ، وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر بأن له متعلقا واقعا في الخارج ، وكذا يخرج جميع المركبات التقييدية والإضافية .

                        واعترض على هذا الحد بأنه إن كان المراد أن النسبة أمر موجود في الخارج لم يصح في مثل اجتماع الضدين وشريك الباري .

                        وأجيب بأن المراد : النسبة الخارجية عن المدلول ، سواء قامت تلك النسبة الخارجية بالذهن كالعلم ، أو بالخارج عن الذهن كالقيام ، أو لم تقم بشيء منهما نحو شريك الباري ممتنع .

                        والأولى أن يقال في حد الخبر : هو ما يصح أن يدخله الصدق والكذب لذاته ، وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق .

                        وقد اختلف هل الخبر حقيقة في اللفظي والنفسي ، أم حقيقة في اللفظي مجاز في النفسي ، أم العكس ، كما وقع الخلاف في الكلام على هذه الثلاثة أقوال ; لأن الخبر قسم من أقسامه .

                        [ ص: 161 ] وإذا عرفت الاختلاف في تعريف الخبر ، عرفت بأن ما لا يكون كذلك ليس بخبر ، ويسمونه إنشاء وتنبيها ، ويندرج فيه الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والنداء ، والتمني ، والعرض ، والترجي ، والقسم .

                        انقسام الخبر إلى صدق وكذب

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية