الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون

تفريع على ما تضمنه قوله فما للذين كفروا قبلك مهطعين من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم : إننا ندخل الجنة ، الاستهزاء بالقرآن والنبيء - صلى الله عليه وسلم - . وبعد إبطاله إجمالا وتفصيلا فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعلم بأنهم لم يجد فيهم الهدي والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة .

ومعنى الأمر بالترك في قوله فذرهم أنه أمر بترك ما أهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإعراض بقوله يخوضوا ويلعبوا .

فجملة يخوضوا وجملة ويلعبوا حالان من الضمير الظاهر في قوله فذرهم . وتلك الحال قيد للأمر في قوله فذرهم . والتقدير : فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم .

وتعدية فعل ( ذر ) إلى ضمير هم من قبيل توجه الفعل إلى الذات . والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل ، مثل قوله تعالى حرمت عليكم الميتة أي : حرم عليكم أكلها ، وقوله وأن تجمعوا بين الأختين أي : أن تجمعوهما معا في عصمة نكاح ، والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين ، وقوله تعالى فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون في سورة الطور ، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله يخوضوا ويلعبوا في هذه الآية ، فقد يكون المقدر مختلفا كما في قوله تعالى [ ص: 182 ] إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إذ التقدير : فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام .

وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان ، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يعده جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافا للكرخي وبعض الشافعية .

وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تلهب أخاها عمرا للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل :


ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم

وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي : لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالىفلا تذهب نفسك عليهم حسرات .

وبهذا تعلم أن قوله تعالى فذرهم لا علاقة له بحكم القتال ، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين .

والخوض : الكلام الكثير ، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .

واللعب : الهزل والهزء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجد في الأمر لاستطارة رشدهم حسدا وغيظا وحنقا .

وجزم يخوضوا ويلعبوا في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم ، إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر : أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا ، أي : يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك ، ومثل هذا الجزم كثير نحو قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ونحو وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوما بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيد نكتة المبالغة .

[ ص: 183 ] و ( حتى ) متعلقة بـ ذرهم لما فيه من معنى أمهلهم وانتظرهم ، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازون على استهزائهم وكفرهم ، فلا يكون غاية لـ يخوضوا ويلعبوا والغاية هنا كناية عن دوام تركهم .

وإضافة ( يوم ) إلى ضمير هم لأدنى ملابسة .

وقرأ الجمهور يلاقوا بألف بعد اللام من الملاقاة . وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء .

واللقاء : مجاز على كل تقدير : فعلى قراءة الجمهور هو مجاز من جهتين ؛ لأن اليوم لا يلقى ولا يلقى . وعلى قراءة أبي جعفر هو مجاز من جهة واحدة ؛ لأن اللقاء إنما يقع بين الذوات .

و يوم يخرجون من الأجداث بدل من ( يومهم ) ليس ظرفا .

والخروج : بروز أجسادهم من الأرض .

وقرأ الجمهور ( يخرجون ) بفتح التحتية على البناء للفاعل . وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول .

والأجداث : جمع جدث ، بفتحتين ، وهو القبر ، والقبر : حفير يجعل لمواراة الميت .

وضمير ( يخرجون ) عائد إلى المشركين المخبر عنهم بالأخبار السابقة . وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر .

والنصب بفتح فسكون : الصنم ، ويقال : نصب بضمتين ، ووجه تسميته نصبا أنه ينصب للعبادة ، قال الأعشى :


وذا النصب المنصوب لا تنسكنه     ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

و ( يوفضون ) مضارع أوفض ، إذا أسرع وعدا في سيره ، أي : كأنهم ذاهبون إلى صنم ، شبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها ؛ لأن لهذا الإسراع اختصاصا بهم ، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دع ودفع ، جزاء على إسراعهم للأصنام .

[ ص: 184 ] وقرأ الجمهور ( نصب ) بفتح النون وسكون الصاد . وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد .

وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل ، كما قال تعالى ( ينظرون من طرف خفي ) وقال خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . وأصل الخشوع : ظهور الطاعة أو المخافة على الإنسان .

والرهق : الغشيان ، أي : التغطية بساتر ، وهو استعارة هنا ؛ لأن الذلة لا تغشى .

وجملة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون فذلكة لما تضمنته السورة في أول أغراضها من قوله ( بعذاب واقع ) إلى قوله ( في يوم كان مقداره ) الآيات ، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون . وفيها محسن رد العجز على الصدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية