الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            لما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن للتوقي عما يسوء النبي عليه السلام ، ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته ، وأوعدهن بتضعيف العذاب ، وفيه حكمتان :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداهما : أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد ، وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ولإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه ، وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ، ولأن امرأة لو كانت تحت النبي صلى الله عليه وسلم وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي عليه السلام ، ويكون ذلك الغير خيرا عندها من النبي وأولى ، والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير ، فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيتهما : أن هذا إشارة إلى شرفهن ، لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهارا لشرفها ، ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم ، فكذلك زوجاته وقرائبه اللاتي هن أمهات المؤمنين ، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة ، وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته ، فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأمة بالنسبة إلى الحرة ، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ، ولا يقع في بعض الصور جزما وفي بعض يقع جزما من مات فقد استراح ، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين ، فقوله تعالى : ( من يأت منكن بفاحشة ) عندنا من القبيل الأول ، فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة ، وقوله تعالى : ( وكان ذلك على الله يسيرا ) أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن ، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا ) بيانا لزيادة ثوابهن ، كما بين زيادة عقابهن ( نؤتها أجرها مرتين ) في مقابلة قوله تعالى : ( يضاعف لها العذاب ضعفين ) مع لطيفة وهي أن عند إيتاء [ ص: 180 ] الأجر ذكر المؤتي وهو الله ، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال : ( يضاعف ) إشارة إلى كمال الرحمة والكرم ، كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله ، وعند الضر لا يذكر نفسه ، وقوله تعالى : ( وأعتدنا لها رزقا كريما ) وصف رزق الآخرة بكونه كريما ، مع أن الكريم لا يكون إلا وصفا للرزاق إشارة إلى معنى لطيف ، وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، التاجر يسترزق من السوقة ، والمعاملين والصناع من المستعملين ، والملوك من الرعية والرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه ، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار . وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه ، فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية