الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ( 16 ) والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ( 17 ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ( 18 ) )

يقول - تعالى ذكره - لهؤلاء الخاسرين يوم القيامة في جهنم : ( من فوقهم ظلل من النار ) وذلك كهيئة الظلل المبنية من النار ( ومن تحتهم ظلل ) يقول : ومن تحتهم من النار ما يعلوهم ، حتى يصير ما يعلوهم منها من تحتهم ظللا وذلك نظير قوله - جل ثناؤه - لهم : ( من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) يغشاهم مما تحتهم فيها من المهاد .

وقوله : ( ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ) يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي أخبرتكم أيها الناس به ، مما للخاسرين يوم القيامة من العذاب - تخويف من ربكم لكم ، يخوفكم به لتحذروه ، فتجتنبوا معاصيه ، وتنيبوا من كفركم إلى الإيمان به ، وتصديق رسوله ، واتباع أمره ونهيه ، فتنجوا من عذابه في الآخرة ( فاتقون ) يقول : فاتقوني بأداء فرائضي عليكم ، واجتناب معاصي ، لتنجوا من عذابي وسخطي .

وقوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت ) : أي اجتنبوا عبادة كل ما عبد من دون الله من شيء . وقد بينا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وذكرنا أنه في [ ص: 273 ] هذا الموضع : الشيطان ، وهو في هذا الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا .

ذكر من قال ما ذكرنا في هذا الموضع :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت ) قال : الشيطان .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) قال : الشيطان .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) قال : الشيطان هو هاهنا واحد وهي جماعة .

والطاغوت على قول ابن زيد هذا واحد مؤنث ، ولذلك قيل : أن يعبدوها . وقيل : إنما أنثت لأنها في معنى جماعة .

وقوله : ( وأنابوا إلى الله ) يقول : وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده ، والعمل بطاعته ، والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا زيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وأنابوا إلى الله ) : وأقبلوا إلى الله .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( وأنابوا إلى الله ) قال : أجابوا إليه .

وقوله : ( لهم البشرى ) يقول : لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة ( فبشر عبادي الذين يستمعون القول ) يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين ، فيتبعون أرشده وأهداه ، وأدله على توحيد الله ، والعمل بطاعته ، ويتركون ما سوى ذلك من [ ص: 274 ] القول الذي لا يدل على رشاد ، ولا يهدي إلى سداد .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فيتبعون أحسنه ) وأحسنه طاعة الله .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( فيتبعون أحسنه ) قال : أحسن ما يؤمرون به فيعملون به .

وقوله : ( أولئك الذين هداهم الله ) يقول - تعالى ذكره - : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، الذين هداهم الله ، يقول : وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب ، لا الذين يعرضون عن سماع الحق ، ويعبدون ما لا يضر ، ولا ينفع . وقوله : ( وأولئك هم أولو الألباب ) يعني : أولي العقول والحجا .

وذكر أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحدوا الله ، وبرئوا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يبعث نبي الله ، فأنزل الله هذه الآية على نبيه يمدحهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) الآيتين ، حدثني أبي أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي نزل فيهم : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) في جاهليتهم ( وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) لا إله إلا الله ، أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي ( وأولئك هم أولو الألباب ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية