الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 164 ] باب ميراث المجوس

                                                                                                                                            قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " إذا مات المجوسي وبنته امرأته ، أو أخته أو أمه نظرنا إلى أعظم السببين فورثناها به وألقينا الآخر وأعظمهما أثبتهما بكل حال ، فإذا كانت أم أخت ورثناها بأنها أم ، وذلك لأن الأم تثبت في كل حال والأخت قد تزول ، وهكذا جميع فرائضهم على هذه المسألة ( وقال ) بعض الناس أورثها من الوجهين معا ، قلنا : فإذا كان معها أخت وهي أم ؟ ( قال ) أحجبها من الثلث بأن معها أختين وأورثها من وجه آخر بأنها أخت ( قلنا ) أوليس إنما حجبها الله تعالى بغيرها لا بنفسها ؟ ( قال ) بلى قلنا وغيرها خلافها ؟ قال : نعم ، قلنا : فإذا نقصتها بنفسها ، فهذا خلاف ما نقصها الله تعالى به أورأيت ما إذا كانت أما على الكمال كيف يجوز أن تعطيها ببعضها دون الكمال ؟ تعطيها أما كاملة وأختا كاملة وهما بدنان ، وهذا بدن واحد ؟ قال : فقد عطلت أحد الحقين . قلنا لما لم يكن سبيل إلى استعمالهما معا إلا بخلاف الكتاب والمعقول ، لم يجز إلا تعطيل أصغرهما لأكبرهما " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا تزوج المجوسي أمه فأولدها ابنا كان الولد منها ابنها وابن ابنها وكانت له أما وجدة أم أب ، وكان للأب ابنا أخا لأم كان الأب له أبا وأخا لأم .

                                                                                                                                            ولو تزوج المجوسي بنته فأولدها ابنا ، فكان الولد منه ابنا وابن بنت ، وكان الأب أبا وجد أب أم ، وكان الابن للبنت ابنا وأخا لأب وكانت له أما وأختا لأب .

                                                                                                                                            ولو تزوج المجوسي أخته فأولدها ابنا كان الأب أباه وخاله ، وكان الابن له ابنا وابن أخت ، وكان للأخت ابنا وابن أخ ، وكانت له أما وعمة ، وقد تتفق هاتان المسألتان في وطء الشبهة ، فإذا كان ذلك في المجوسي وقد أسلموا أو تحاكموا إلينا في مواريثهم ، أو كان في المسلمين مع الشبهة ، فإن اجتمع فيه عقد نكاح وقرابة سقط التوريث بالنكاح لفساده وتوارثوا بالقرابة المفردة بالاتفاق ، وإن اجتمع في الشخص الواحد منهم قرابتان بنسب توجب كل واحدة منهما الميراث ، فإن كانت إحداهما تسقط الأخرى كأم هي جدة ، أو بنت هي أخت لأم ، ورثت بابنتها وألغيت المحجوبة منهما إجماعا ، وإن كان إحداهما لا تسقط الأخرى كأم هي أخت ، أو أخت هي بنت فقد اختلف الناس هل تورث بالقرابتين معا أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : أورثها بالقرابتين معا . وبه قال من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس ، ومن التابعين [ ص: 165 ] عمر بن عبد العزيز ومكحول ، ومن الفقهاء النخعي والثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال الشافعي أورثها بأثبت القرابتين وأسقط الأخرى ، ولا أجمع لها بين الميراثين ، وبه قال من الصحابة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ومن التابعين الحسن البصري ، ومن الفقهاء مالك والزهري والليث وحماد ، واستدل من ورث بها بأن الله تعالى نص على التوريث بالقرابات ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألحقوا الفرائض بأهلها فلم يجز مع النص إسقاط بعضها .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن اجتماع السببين من أسباب الإرث عند انفصالها لا يمنع من اجتماع الإرث بهما ، كابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم .

                                                                                                                                            قالوا : لأن اجتماع القرابتين يفيد في الشرع أحد أمرين : إما التقديم كأخ للأب والأم مع الأخ للأب ، وإما التفضيل كابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم ، ولا يجوز أن يكون اجتماعهما لغوا لا يفيد تقديما ولا تفضيلا لما فيه من هدم الأصول المستقرة في المواريث ولذلك لم يجز الاقتصار على إحدى القرابتين .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف [ النساء 11 ] ، فلم يزد الله تعالى البنت على النصف ، وهم يجعلون للبنت إذا كانت بنت ابن النصف والسدس ، والنص يدفع هذا ، ولأن الشخص الواحد لا يجتمع له فرضان مقدران من ميت واحد كالأخت للأب والأم لا تأخذ النصف بأنها أخت لأب والسدس بأنها أخت لأم ، ولأن كل نسب أثبت الله تعالى به التوارث جعل إليه طريقا كالبنوة والمصاهرة ، فلما لم يجعل إلى اجتماع هاتين القرابتين وجها مباحا دل على أنه لم يرد اجتماع التوارث منهما ، وقد يتحرر منه قياسان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ما منع الشرع من اجتماعهما في بدن واحد لم يجتمع التوارث بهما كالخنثى لا يرث بأنه ذكر وأنثى .

                                                                                                                                            والثاني : أن سبب الإرث إذا حدث عن محظور لم يجز التوارث به كالأخت إذا صارت زوجة ، واستدل الشافعي بأن مجوسيا لو ترك أختا وأما هي أخته ، لم يخل أن تحجب الأم إلى السدس أو لا تحجب ، فإن لم تحجب فقد كمل فرض الأم مع الميراث الأختين وإن حجبت والله تعالى قد حجبها بغيرها وهم قد حجبوها بنفسها وذلك مخالف لحجب الله تعالى وحكم الشرع .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بالظاهر فهو حمل المقصود بها على انفراد الأسباب اعتبارا بالعرف المعتاد دون النادر الشاذ ، وليس يجوز حملها على ما حظره الشرع ومنع العرف دون ما جاء الشرع به واستقر العرف عليه وقرابات المجوس الحادثة عن مناكحهم لم يرد بها شرع ولم يستقر عليها عرف ، وبهذا يجاب عن قياسهم على ابني أحدهما أخ لأم : لأن الشرع أباحه والعرف استمر فيه .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن اجتماع القرابتين يفيد أحد أمرين من تقديم أو تفضيل ، ففاسد [ ص: 166 ] بالأخت من الأب والأم مع الزوج يأخذ النصف الذي تأخذه الأخت للأب على أن جمعها بين القرابتين يمنع من مساواة الأمرين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية